الذين يموتون في عرض البحر، الهاربون من الفقر والجوع، الباحثون عن المستقبل، ليسوا موتى أحد. في الغالب لا نعرف لهم بلدا ولا جنسية. فكيف تمكن نسبتهم إلى ما لفظهم ولفظوه؟ وهل يمكن نسب مقتول إلى قاتله؟ جنسياتهم هي في الإحصاءات والبيانات الرسمية فحسب، لكنها ليست في الواقع. ليست في أفكار الغرقى ووجدانهم، لا قبل ولا بعد أن يبتلعهم البحر. الذين يركبون قوارب الموت تلك، بعد مقتل ما لا يقل عن 20 ألف لاجئ في البحر وحده خلال أقل من تسع سنوات، ليسوا غافلين عن المخاطر التي تواجههم. الرحلة نفسها، حتى ولو كانت النتيجة النهائية مضمونة، هي البيان الأبلغ في عصرنا هذا عن اليأس.
حين يحمل أحدهم مسدسا أو بندقية ويقتل الناس، يسمّى مجرما، قاتلا، إرهابيا. أما الفقر فلا أب له ولا أم. إنه يتيم مثل ضحاياه. لن نقرأ بيان شجب وإدانة ضدّ من أوصل أولئك الناس إلى قلب اليأس وتركهم عراة أمام العالم أجمع. سوف يدان المهرّب الذي طمعا في المال، وفي مزيد ومزيد من المال، باع أولئك الناس أوهام الأمل والمستقبل وأودى بهم إلى حتفهم، لكن لن يدان من أودى بهم إلى اليأس في المقام الأول. الفقر في عالمنا هذا يبدو ظاهرة طبيعية، كالفيضانات والزلازل، وضحاياه هم مجرّد أناس "تصادف" وجودهم في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.
حين يحمل أحدهم مسدسا أو بندقية ويقتل الناس، يسمّى مجرما، قاتلا، إرهابيا. أما الفقر فلا أب له ولا أم. إنه يتيم مثل ضحاياه. لن نقرأ بيان شجب وإدانة ضدّ من أوصل أولئك الناس إلى قلب اليأس وتركهم عراة أمام العالم أجمع
ربما يسجّل القارب الأخير الذي غرق قبالة سواحل اليونان، حصيلة الضحايا الأكبر حتى الآن، إذ يقدّر أنه كان يحمل 750 شخصا من الرجال والنساء والأطفال، لم ينقذ منهم حتى اللحظة سوى مائة ونيف، أيّ أن ما لا يقلّ عن ستمائة شخص قضوا فعلا في الحادث، ولم ينتشل منهم حتى الآن سوى بضع عشرات، في حين يبقى مصير البقية مجهولا. الرقم مرعب، وصف "مجزرة" ليس معتادا في هذه الأحوال. القتل بالماء، بالفقر، باليأس، لا يرقى في أعراف العالم إلى مستوى الجريمة، فما بالك بالمجزرة. ضحايا هذه المجزرة هم في نهاية المطاف من نسيهم العالم قبل غرقهم، ومن سينساهم العالم بعد غرقهم. من يقبض عليه قبل الرحلة أو بعدها يصبح مشكلة بلد ما. من يصل منهم حيا يصبح مشكلة بلد آخر. أما من يموت فلا يعود مشكلة أحد، لا البلد الذي جاء منه، ولا الذي مرّ عبره، ولا الذي كان يعتزم الوصول إليه. هذه هي المأساة الفريدة لأزمة اللاجئين واللجوء في العالم. مجرد كونك لاجئا أو مشروع لاجئ يعني أنك صرت على هامش العالم. تغدو مشكلة لوجستية، إدارية، بيروقراطية، سواء وصلت إلى وجهتك أم لم تصل.
يُقدّر عدد اللاجئين/المهاحرين في العالم، بحسب تقرير الهجرة العالمي في 2020، بـ 281 مليون شخص. هذا العدد يخصّ أولئك الذين غادروا مسقط رأسهم إلى بلد آخر، وحتى إلى قارة أخرى، إلا أن الأرقام ترتفع أكثر من ذلك بكثير لدى الحديث عمن ينزحون، غالبا بسبب الحروب، مثلما نرى حاليا في السودان، داخل بلدانهم. وإذا كانت هذه الأرقام تؤشّر إلى حقيقة ما، فهي انعدام العدالة والتوازن في العالم.
ولا حاجة إلى تكرار الحديث عما خلفه الإرث الاستعماري، وعن أشكال الاستغلال المتعددة والمستمرّة في إفريقيا على وجه الخصوص، للتدليل على الظلم التاريخي الذي عانته وتعانيه شعوب تلك القارة، إلا أن الارتفاع المهول في أعداد اللاجئين خلال العقود الثلاثة الماضية، يؤكّد أن جميع مزاعم العولمة أو العالميّة أو العالم الواحد، تمضي في اتجاه واحد فقط. فالعالم واحد، بلا حواجز ولا حدود، فقط عندما يتعلق الأمر بانتقال رؤوس الأموال، أما عندما يتعلّق بالكرامة والرفاهية والمساواة بين جميع شعوبه، فهو عوالم كثيرة.
وفي هذه العوالم يعدّ اللاجئون – النتيجة الأوضح لهذا الظلم التاريخي - حمولة زائدة.
هذه هي المأساة الفريدة لأزمة اللاجئين واللجوء في العالم. مجرد كونك لاجئا أو مشروع لاجئ يعني أنك صرت على هامش العالم. تغدو مشكلة لوجستية، إدارية، بيروقراطية، سواء وصلت إلى وجهتك أم لم تصل
التسامح والانفتاح وبناء الجسور وغيرها من قيم إنسانية رفيعة تتشدّق بها دول كثيرة، هي في نهاية المطاف مجاملات وآداب محادثة بين النافذين والأقوياء. أما الضعفاء والفقراء والمعوزون فلهم قوارب التهريب والجدران والحواجز والمخيمات والسجون، ولهم أولا وأخيرا قيعان البحار التي تبدو الوحيدة القادرة على احتضان حاضرهم المهزوم وأحلامهم الغارقة.