"تستيقظ في الصباح وتذهب إلى الحمام وتستحم بإسفنجة وصلتك ربما من أحد سكان جزر المحيط الهادئ. تحمل قطعة صابون قدمتها لك يد رجل فرنسي. بعد ذلك تدخل المطبخ لتشرب قهوتك التي تصل إلى فنجانك عبر مواطن من أميركا الجنوبية أو ربما تريد الشاي الذي وصلك من صيني. قد ترغب في تناول الشوكولا بالحليب على الفطور وهذا ما يسكبه لك أحد سكان غرب إفريقيا. وبعد ذلك تصل إلى الخبز المحمص الذي يقدمه لك مزارع يتحدث الإنكليزية، ناهيك عن الخباز... وقبل أن تنتهي من تناول وجبة الإفطار في الصباح، تكون قد اعتمدت على أكثر من نصف العالم".
بهذه المقولة التي تهدف إلى إحياء روح التعاطف والتكاتف الاجتماعي، عبّر مارتن لوثر كينغ عن الوضع الإنساني الحالي، مستحضرا فكرة أننا نعيش في عالم متداخل، وأن مواجهة التحديات المشتركة، من قبيل الفقر والهجرة والتغيّر المناخي، تتطلّب منا العمل معا. وقد أسهمت التطورات التكنولوجية، لاسيما في مجال الاتصالات، في تعميق الوعي بترابط البشر، كما أكّدت الحاجة إلى فهم العالم الأوسع خارج الحدود المحلية الضيقة.
التباينات في القيم والممارسات الإنسانية تتنوع باختلاف تلك السياقات الثقافية مما يجعل من الصعب تعميم مبدأ المواطنة العالمية والتي لا تعني التخلي عن المواطنة المحلية، إنما هي امتداد لها وتخدم أهدافها التنموية المستدامة
بات مفهوم "العالمية" أو"الدولية" عنصرا ضروريا للتوعية بأهمية العمل الاجتماعي والإنساني في زمننا الراهن، حتى إن بعض الدول أدرجته ضمن المناهج الدراسية الأساسية من خلال إضافة محتوى حول "الترابط العالمي أو المواطنة العالمية" جنبا إلى جنب تعزيز مفاهيم الهوية الوطنية والمحلية التي لا تنفك عن القضايا الدولية لسياسات الرعاية الاجتماعية وتقديم الخدمات الاجتماعية. وبحسب سوزان ماب في كتابها "حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية من منظور عالمي" الصادر في 2014 فإن الولايات المتحدة الأميركية ارتكبت خطأ في العقد الماضي حين عزلت نفسها عن العالم في قارة قصية معتقدة أنها في قمة عالم لا تحتاج إليه، وأوصت الباحثة بتوسيع حدود العمل الاجتماعي "المتمركز حول أميركا" والبدء في ممارسة فعالة في هذا العصر العالمي وإعداد أخصائيين اجتماعيين للتعرف على السياق العالمي للعمل الاجتماعي. رغم هذا فالتباينات في القيم والممارسات الإنسانية تتنوع باختلاف تلك السياقات الثقافية مما يجعل من الصعب تعميم مبدأ المواطنة العالمية والتي لا تعني التخلي عن المواطنة المحلية، إنما هي امتداد لها وتخدم أهدافها التنموية المستدامة وتعززها في شتى القضايا الإنسانية القائمة المرتبطة بأهداف التنمية المستدامة.
ومن الصعوبات التي تقف حائلا دون المواطنة العالمية ونشرها كقيمة هو أن البلدان حول العالم تختلف في الأهمية النسبية التي توليها لمختلف الحقوق، وفي كيفية تنفيذها ثقافيا. ففي حين تعني "العالمية" Universalism معايير موحدة تنطبق على الجميع، بغض النظر عن الثقافة، فإن "النسبية الثقافية" Cultural Relavitism تشير إلى أن القيم العالمية تصبح ثانوية أمام الثقافة المحلية، مما يتطلب موازنة دقيقة بين العالمية والنسبية الثقافية. ففي حين كان الغرب منطلق ومبتدأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يركز على الفردية، فإن العديد من الدول الآسيوية والأفريقية يولي أهمية أكبر للتناغم الثقافي، أكثر مما للاستقلالية الفردية. على سبيل المثال، كثيرا ما تنتقد الحكومة الأميركية الصين بسبب ما تعتبره انتهاكات لحقوق الإنسان، في حين يمكن تبرير موقف الصين بأنه بلد جمعي يعلي من قيمة الجماعة ويضع الاحتياجات الاقتصادية المجتمعية فوق الحقوق السياسية الفردية. لذلك من المهم إدراك أن مبدأ العالمية لا يعني "التماثل"وأنه يمكن مراعاة الحقوق بطرق متناسبة ثقافيا.
لا يكفي أن يتعلم الطلاب عن حقوق الإنسان، إذ أن ترسيخ الاهتمام بحقوق الآخرين من خلال تعزيز مفهوم التعاطف هو الذي يربط بين المعرفة والعمل، إذ تتطلب المواطنة العالمية تعزيز القدرة على التعاطف مع الآخرين والتواصل معهم، وهو ما يتطلب توازنا دقيقا في إدراك المشتركات واحترام الاختلافات الثقافية.
وجدت دراسات ثقافية أن الطلاب اليابانيين يفخرون بالعلوم والتكنولوجيا وبالشركات الوطنية والأداء الاقتصادي اعتزازا باليابان كعملاق اقتصادي بتقنية عالية، في حين يفتخر الطلاب البريطانيون والألمان
بما بعد الثورة الصناعية، والمتمثل بالتعدّد الثقافي، وبمجتمع ينعم بالرعاية الاجتماعية والديمقراطية الليبرالية، ومعدل الأمن والقضايا الإنسانية.
تتطلب المواطنة العالمية تعزيز القدرة على التعاطف مع الآخرين والتواصل معهم، وهو ما يتطلب توازنا دقيقا في إدراك المشتركات واحترام الاختلافات الثقافية
في المقابل وفي دراسة شاركت بها أخيرا على الشباب السعودي كجزء من بحث دولي مهتم بمفهوم المواطنة العالمية ومدى الاهتمام بالقضايا العالمية لدى الجيل الثاني من عصر الثورة التكنولوجية، وكان اهتمامي منصبّا على معرفة منظور الشباب السعوديين للمواطنة العالمية وإلى أي درجة يهتمون بمتابعة أحداث العالم، بالإضافة إلى الأحداث المحلية، وكيف يؤثر هذا على درجة إحساسهم بالمشكلات العالمية وقلقهم بشأن ما يدور في العالم. أظهرت النتائج ارتباط استخدام الشباب لوسائل التواصل الاجتماعي، ليس، كما يشاع، بهدف التباهي بهذه التقنيات الحديثة، بل بغية استثمارها في متابعة الأحداث الجارية على الصعيدين المحلي والعالمي بمزيد من الرغبة في مواجهة تلك القضايا والتي تركزت في الاهتمام بقضايا مثل الجوع ونقص المياه والتغير المناخي واللاجئين والجرائم ضد الإنسانية، بين الأغنياء والفقراء وآثار ازدياد انتشار الأمراض المعدية المضطرد في جميع أنحاء العالم.
وأظهرت الدراسة أن الشباب السعودي لديه وعي بالقضايا المحلية وهذا بحد ذاته يزيد من اهتمامهم بقضايا العالم. وحين سئلوا عن تعريفهم لـ "المواطنة العالمية" عبر أكثر الشباب السعوديين عن أن معناها بالنسبة إليهم هو "أننا جميعا بشر".
خلاصة القول، وعودا إلى مقولة مارتن لوثر كينغ، إن الأمر يتلخص في أن الحياة كلها مترابطة، في شبكة من التبادلية التي لا مفر منها، مما يجعلنا مقيدين في مصير واحد. والواقع يدلل على هذا كل لحظة. فالخيط المشترك موصول بين البشر. ولا شيء يحدث في عزلة. والاعتراف بهذا المبدأ الأساسي للوجود واحترامه، هما بوابة السلام الحقيقي.