جونسون يختار الوقت المناسب للعودة

جونسون يختار الوقت المناسب للعودة

في الوقت الذي يفترض أن تكون فيه حظوظ بوريس جونسون السياسية في الحضيض، هناك بالفعل من يتكهن عن الوقت الذي سيكون فيه قادرا على تنظيم عودته إلى الحياة السياسية، وهذه شهادة له على مقدرته على البقاء.

منذ أن طرده زملاؤه في حزب المحافظين من منصبه على نحو فظ الصيف الماضي، ظهر رئيس الوزراء البريطاني السابق في كثير من الأحيان كوحش جريح، يتعقب المشهد السياسي البريطاني، بحثا عن فرصة يشن فيها هجوما جديدا ليعود إلى الحلبة السياسية.

لا بل تردد أنه فكر بجدية في تقديم اسمه ليحل محل ليز تراس، التي خلفته في رئاسة الوزراء، بعد انهيار رئاستها للوزراء الخريف الماضي واحتراق ورقتها في غضون سبعة أسابيع. ولكنه خلص وقتها إلى أن عودته سابقة لأوانها، وأن من الأفضل له الانتظار حتى تسنح فرصة أكثر ملاءمة.

ويرجع أحد أسباب تردد جونسون وقتها، إلى أنه ومستشاريه خلصوا إلى أنه من غير المناسب أن يفكر بجدية في العودة للخطوط الأمامية في السياسة البريطانية، قبل أن تنتهي لجنة الامتيازات البرلمانية من تحقيقها في الادعاءات بأنه تعمد تضليل البرلمان أثناء جائحة كورونا.

جونسون استبعد تقاعده من السياسة تماما، وأوضح بجلاء أن رحيله عن وستمنستر ما هو إلا إجراء مؤقت، سينتهي في مرحلة ليست ببعيدة

وكان جونسون قد أبلغ النواب بأنه لم يخرق القواعد، بعد اتهامات له بأنه شارك في حفلات أقيمت في داونينغ ستريت في وقت كانت البلاد فيه مغلقة بسبب كوفيد، وهو انتهاك واضح لقواعد التباعد الاجتماعي التي فرضتها بالحكومة. ولكن الأدلة التي قدمت إلى اللجنة، وعلى الأخص الأدلة المقدمة من الخدمة المدنية، أشارت إلى خلاف ذلك، ما زاد من احتمال عزل جونسون من البرلمان إذا ثبتت إدانته.


طوال جلسات الاستماع، التي امتدت عدة أشهر، ظل جونسون واثقاً متفائلا، لاعتقاده أنه قادر على إقناع اللجنة المكونة من جميع الأحزاب ببراءته. ولكن عندما عُرضت عليه أخيرا مسودة النتائج التي توصلت إليها اللجنة في نهاية الأسبوع الأخير، رد عليها جونسون بالاستقالة من مقعده، فحرم اللجنة من فرصة عزله. 


ولئن كان تقديم جونسون استقالته المفاجئة كنائب في البرلمان قد أثار بوصفه حدثا متفجرا موجات من الصدمة في جميع أنحاء المؤسسة السياسية في وستمنستر، فمن الواضح اليوم أن هذه الخطوة لم تكن إلا لعبة سياسية ذكية أخرى اتخذها جونسون للحفاظ على مكانته السياسية. ذلك أن جونسون استبعد تقاعده من السياسة تماما، وأوضح بجلاء أن رحيله عن وستمنستر ما هو إلا إجراء مؤقت، سينتهي في مرحلة ليست ببعيدة.


 من المؤكد أن قلة من زملائه البرلمانيين ساورهم بعض الشك في أن بيان استقالته قد ترك الباب مفتوحا أمام عودته إلى مجلس العموم، عندما قال: "أنا حزين جدا لمغادرتي البرلمان،  أقله في الوقت الحالي".
 كانت تعليقات جونسون صدى لتعليقاته التي أدلى بها عندما أجبر العام الماضي على التنحي كرئيس للوزراء، حين قام، أثناء رده على الأسئلة الأخيرة في مجلس العموم، بتوديع منصبه قائلا: "أراك قريبا" (Hasta La Vista).
 

فيما يتنحى جونسون الآن عن منصبه كعضو في البرلمان عن منطقتي أوكسبريدج وساوث رويسليب بعد 15 عاما، فمن الواضح أنه يرى في استقالته حيلة تكتيكية أكثر منها اعترافا بالهزيمة

فبعد أن أمضى جونسون 22 عاما في الخطوط السياسية الأمامية، منها ثلاث سنوات كواحد من صانعي السياسة بعد أن شغل منصب وزير الخارجية وعمدة لندن، غدت السياسة تسري في عروقه، حتى إن بيان استقالته المكون من 1020 كلمة كان هجوما محسوبا، صمم لتقويض ريشي سوناك، الذي أدى دورا رئيسا في سقوطه قبل أن يتسلم منصب رئيس الوزراء، أكثر منه قبولا بأن حياته السياسية قد انتهت.


وفيما يتنحى جونسون الآن عن منصبه كعضو في البرلمان عن منطقتي أوكسبريدج وساوث رويسليب بعد 15 عاما، فمن الواضح أنه يرى في استقالته حيلة تكتيكية أكثر منها اعترافا بالهزيمة.


 وهو يلقي باللوم في اتخاذ قراره مباشرة على لجنة الامتيازات، التي وصفها بأنها "متحيزة" و"محكمة كنغر"، وهي محكمة كانت عازمة على دفعه إلى النسيان السياسي.


في الواقع، يبدو أن جونسون قد أقنع نفسه بأنه مستهدف بسبب دوره البارز في إقناع الجمهور البريطاني بالتصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) عام 2016.
 ووفق زعمه، "لست وحدي من يفكر أن هناك حملة مطاردة ساحرات جارية، انتقاماً من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ولقلب نتيجة استفتاء عام 2016 في النهاية".
 ولكن جونسون بدلاً من أن يسمح لنفسه بأن يكون ضحية لأي "مطاردة ساحرات"، فمن الواضح أنه اختار شن هجوم ضد معذبيه، وعلى الأخص سوناك.
بعد ما يقرب من عام على إقالته من داونينغ ستريت، عقد جونسون مقارنة بين سجله الخاص وسجل خليفته، مبيناً أن رئيس الوزراء الحالي لا فرصة له في الاحتفاظ بالأغلبية البرلمانية الهائلة المكونة من 80 مقعداً، وهي المقاعد التي فاز بها جونسون في الانتخابات العامة الأخيرة عام 2019.
كما ينتقد جونسون بشدة طريقة تعامل سوناك مع الاقتصاد، مؤكداً أنه فشل في دعم " خطة مؤيدة للنمو والاستثمار".
 

يبدو أن جونسون أقنع نفسه بأنه مستهدف بسبب دوره البارز في حمل الجمهور البريطاني على التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) عام 2016

وحسب وجهة نظره،  "نحن بحاجة إلى خفض الضرائب على المشاريع وخفض الضرائب الشخصية– ليس كوسيلة للتحايل قبل الانتخابات فقط– عوضا عن زيادتها دون توقف." كما أن فشل سوناك في ضمان اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة مثال آخر على فشله في البناء على إرث جونسون الخاص بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.


وسأل جونسون: "لماذا تخلينا على نحو سلبي عن فرصة إبرام اتفاق التجارة الحرة مع الولايات المتحدة؟".
في الوقت الحالي، مع اقتراب موعد الانتخابات العامة البريطانية بعد عام على الأقل، من المرجح أن يفكر جونسون ملياً قبل أن يتخذ قراره الذي يحدد خيارات عودته السياسية.


في العام الذي أعقب مغادرته داونينغ ستريت، رسخ جونسون نفسه بالفعل في دائرة إلقاء الخطب والمحاضرات العالمية، وكسب أكثر من 4.2 مليون جنيه إسترليني من هذا العمل الذي أخذه إلى نيجيريا ونيويورك وسنغافورة. كما أنه يعمل على تدوين مذكراته عن الفترة التي قضاها في داونينغ ستريت، وهي مذكرات لا بد أن تكشف عند نشرها عددا من القضايا الخفية المتفجرة.


والآن، فيما يستعد جونسون لأخذ إجازته من المسرح البرلماني، فإن جميع المؤشرات تدل على أن الشخصية الأكثر إثارة للجدل في الحياة السياسية البريطانية، تضع بالفعل الأساس لعودتها المظفرة.
 

font change