لم يؤسس دونالد ترمب حالة التدهور السياسي التي قال إنها تعم الولايات المتحدة. لكنه ليس بريئا منها ومن تصعيدها إلى مستويات غير مسبوقة جعلت من الحياة السياسية الأميركية طُرفة بل أضحوكة.
تفسيرات عدة لما يجري في السياسة الأميركية سال في وصفها حبر كثير: النظام الانتخابي المعقد والجامد منذ عقود والذي يكرس الاستقطاب السياسي ويجعل بروز قوى جديدة مسألة تفترض مسارات غير مباشرة من خلال أصحاب رؤوس الأموال والتمكن من نشر الدعاية والوصول إلى شرائح واسعة من الجمهور. والاستقطاب بين الديمقراطيين والجمهوريين يعكس بدوره الانقسام العميق بين المدن الكبرى على الساحلين الشرقي والغربي وبين الأرياف، والتباين الكبير بين اهتمامات وهواجس الفئتين الاجتماعيتين.
المواجهة بين أنصار "جعل أميركا عظيمة مجددا" التي تمثل التيار اليميني الشعبوي في الحزب الجمهوري والأكثر شعبية بقيادة ترمب، وبين من يسميهم الجمهوريون "الووك" أو التيار اليساري المعلي من شأن قضايا الهوية والجندر والمساواة بين الإثنيات في الحزب الديمقراطي، تبدو مثل السير في حلقة مفرغة.
فالظروف التي أنشأت الانقسام الاجتماعي- السياسي باقية وتتعمق. وإذا كان ترمب رمز المرحلة الحالية في السياسة الأميركية إلى الحد الذي يصح فيه وصفها بالمرحلة الترمبية، فإنه ليس الوحيد الذي ينهج هذا النهج. محافظ فلوريدا الطامح إلى كسب ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية رون دوسانتيس، لديه معاركه الخاصة مع شركة "ديزني" ومدينة الملاهي التي تديرها في ولايته. عناصر الثقافة والمثلية وما ينبغي أن يتعلمه الأطفال، تداخلت مع مشكلات الضرائب وحرية التعبير عن الرأي في مزيج يليق حقا بحالة التشوش الأميركي الحالية.
الظروف التي أنشأت الانقسام الاجتماعي- السياسي باقية وتتعمق. وإذا كان ترمب رمز المرحلة الحالية في السياسة الأميركية إلى الحد الذي يصح فيه وصفها بالمرحلة الترمبية، فإنه ليس الوحيد الذي ينهج هذا النهج
وإذا صح أن ترمب لم يبتدع الوضع الحالي المضطرب في الولايات المتحدة، فإن الصحيح أيضا أنه سجل رقما قياسيا من السوابق التي كان من المحال مجرد التفكير فيها في الأعوام الماضية. فمن إنكاره لنتائج انتخابات 2020 إلى تحريضه على اقتحام مبنى الكابيتول وامتناعه عن حضور حفل تنصيب خلفه في البيت الأبيض واستيلائه على وثائق سرية وتخزينها في دارته، وإدانته بالتحرش بكاتبة معروفة، وصولا إلى محاكمته الحالية وفق مواد تنطوي في إطار قانون مكافحة التجسس، تتشكل سلسلة من القصص الغرائبية التي تجعل من إرسال الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون فريقا من الحزب الجمهوري لاقتحام مكاتب الحزب الديمقراطي في "ووترغيت"، لعبة أطفال.
وبما أن "الزمان كأهله" فلا يكون دونالد ترمب سوى انعكاس كاريكاتيري للوضع العام في السياسة التي لا تقتصر على الولايات المتحدة. ذلك أن رئيس الوزراء الإيطالي الراحل قبل أيام سلفيو بيرلسكوني قدم الكثير من المواد التي ملأت صفحات الفضائح في الصحف الصفراء ناهيك عن تدشينه عصر كبار رجال الأعمال في مقدمة الصفوف السياسية بعدما كانوا يفضلون البقاء في الخلف وتحريك الدمى.
لا أهمية كبيرة هنا للغة التي يستخدمها ترمب والتي يقول نقاده إنها تقتصر على بضع عشرات من الكلمات التي يستخدمها من دون توقف. وعلى الرغم من أن الرجل لم تعرف له مساهمات فكرية أو ثقافية من أي نوع كان، إلا أن الغالب على الظن أن اعتماد هذه اللغة مقصود ويأتي ضمن السياق الذي اختاره ترمب لتقديم شخصيته.
فهو صاحب المليارات الذي يتنقل بطائرته الخاصة بين منتجعاته وملاعب الغولف التي يملكها، لكنه الوحيد الحريص على مصالح الأميركيين البسطاء الذين تتآمر عليهم "الدولة العميقة" في واشنطن ويمثلها خصومه، سواء كانوا من الحزب الديمقراطي كالرئيس جو بايدن والمرشحة السابقة هيلاري كلينتون، أو من الحزب الجمهوري كنائبه السابق مايك بنس والنائبة السابقة ليز تشيني التي خسرت مقعدها في الكونغرس بسبب رفضها لما وصفته بـ"المهازل" التي قام ترمب بها.
الأميركي المثابر على عمله والمحب لبلاده والذي يعاني من دفع ضرائب يستفيد منها سياسيون انتهازيون في العاصمة البعيدة، هو المؤيد المفترض لترمب
الأميركي المثابر على عمله والمحب لبلاده والذي يعاني من دفع ضرائب يستفيد منها سياسيون انتهازيون في العاصمة البعيدة، هو المؤيد المفترض لترمب الذي يسخر من الطاقة البديلة ومن محاولات فرض قيود على الأسلحة الهجومية التي ترتكب بها العشرات من جرائم القتل في المدارس والأسواق والذي ينكر بشدة ظاهرة التغير المناخي.
غني عن البيان أن هذه القضايا يجب- وفق برنامج ترمب- أن تبقى في الظل وأن تبقى السياسة ساحة صراع بينه هو ممثل الخير المطلق، وبين خصومه "الأشرار"، في تبسيط يبدو كمقدمة لاختفاء المحاكمة العقلانية للبرامج والمشاريع والفوارق بين السياسات المختلفة.