يجد المزارعون السوريون أنفسهم مجددا منهمكين في ترتيبات موسم حصاد القمح، وفقا لما اعتادوا عليه، ويفكرون في الوقت نفسه فيمن سيبيعون محاصيلهم له هذه السنة. إلا أن قرار النظام المفاجئ بعرض سعر شراء أدنى من السعر الذي تعرضه الإدارة الذاتية، وهي المنافس الرئيس، قد يسهل على المزارعين اتخاذ قرارهم هذا العام. ومع ذلك، فإن عدم رغبة دمشق في تقديم سعر تنافسي يثير تساؤلات حول الدوافع الكامنة وراء هذا التحول في سياستها، إذ إن قرارا كهذا يخاطر في جعل غياب الأمن الغذائي أشد سوءا في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
في الماضي، لم يكن على المزارعين السوريين أن يتخذوا مثل هذه القرارات الاستراتيجية. ولا ينبغي لذلك أن يفاجئ أحدا، فلم يكن ثمة سوى جهة واحدة فقط هي المسؤولة عن تحديد سعر شراء القمح من المزارعين. إلا أن الحرب وما تسببت به من انقسام البلد إلى مناطق عديدة، أدت إلى انبثاق ديناميات جديدة وأكثر تحديا. ومع أن القمح يُزرع في المناطق المختلفة، إلا أن معظم إنتاجه يتركز في تلك التي تقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية، شمال شرقي سوريا. وقد أثار هذا التوزيع غير المتكافئ لإنتاج القمح في البلاد، معركة بين النظام والإدارة الذاتية على هذه السلعة الاستراتيجية.
بدورها، أصدرت الإدارة الذاتية، التي تعرض أسعارا تنافسية، قوانين تمنع منتجي القمح من بيع محاصيلهم للنظام دون ترخيص منها. وقد يؤدي انتهاك هذا القوانين إلى غرامات مالية كبيرة وحتى السجن. لذا فإن على المزارعين في شمال شرقي سوريا النظر بتمعن إلى الآثار المترتبة على بيع محاصيلهم للنظام، وإعداد استراتيجيات تخفف عنهم أي عواقب محتملة، لا سيما إذا توفرت إمكانية لكسب أرباح أعلى من خلال صفقات كهذه.
أصدرت الإدارة الذاتية قوانين تمنع منتجي القمح من بيع محاصيلهم للنظام دون ترخيص منها. وقد يؤدي انتهاك هذا القوانين إلى غرامات مالية كبيرة وحتى السجن
لكن النظام يبدو هذه السنة، وبخلاف السنوات السابقة، أقل ميلا للدخول في حرب مزايدة مع منافسه الرئيس. فحدد سعر الشراء الأولي للقمح بـ255 دولارا للطن الواحد، وهو أقل من السعر المحدد عام 2022 حسب سعر الصرف الرسمي في ذلك الوقت. وإذا أخذنا في الحسبان التضخم وتكاليف الإنتاج المرتفعة، فإن المعدل سيغدو أقل.
واستجابة للانتقادات الواسعة لهذا المعدل المتدني، رفعت الحكومة السعر في النهاية إلى 312 دولارا للطن الواحد. غير أن هذا السعر، على الرغم من هذه الزيادة، لا يزال أقل بكثير من المعدل الذي حددته الإدارة الذاتية مبدئيا عند 430 دولارا للطن الواحد.
دأب النظام في الماضي على أن يحصل من الشمال الشرقي السوري على ما يقارب 35 في المئة من إمدادات القمح السنوية عبر وسطاء محليين وبعرضه أسعارا تنافسية أعلى واستخدام الوسطاء لتقليل المخاطر على المزارعين. غير أن الأمر يبدو هذا العام غير ممكن بسبب نقص العروض التنافسية وما يرتبط بها من أخطار عالية.
يبرر المسؤولون الحكوميون هذه السياسة المثيرة للجدل، والتي يمكن أن تكون لها آثار كبيرة على الأمن الغذائي في مناطق النظام، بأن السعر عادل. ويدّعون أن السعر المقدم من الحكومة يغطي تكاليف الإنتاج ويوفر أيضا هامش ربح للمزارعين.
غير أن منتجي القمح يرفضون هذه الرواية بشدة، مؤكدين أن السعر لا يغطي حتى التكاليف الفعلية لإنتاج القمح لهذا الموسم. ولا يعني ذلك أنهم راضون عن السعر الذي حددته الإدارة الذاتية، على الرغم من ارتفاعه، بل أبدوا استياء من ذلك، يؤكد أيضا على عدم كفاية السعر الذي يقدمه النظام.
يرجع بعض المحللين سبب انخفاض السعر الذي يحدده النظام إلى نقص موارده المالية. ويرون أن العجز المالي الكبير في ميزانية دمشق هذا العام قد حد من قدرة الأسد على تقديم سعر تنافسي
ويرجع بعض المحللين الذين يتفقون مع هذا التقييم، سبب انخفاض السعر الذي يحدده النظام إلى نقص موارده المالية. ويرون أن العجز المالي الكبير في ميزانية دمشق هذا العام قد حد من قدرة الأسد على تقديم سعر تنافسي.
لكن آخرين يرون أن سياسة النظام تنبع من قدرته على استيراد القمح من الخارج بتكلفة أقل، بينما يقدمون داخليا سعرا أعلى. ويؤكدون على أن سعر القمح في السوق العالمية حاليا يبلغ نحو 260 دولارا للطن الواحد، وهو سعر أقل مما يقدمه النظام حاليا للمزارع المحلي. وهم يؤكدون استعداد روسيا لتصدير القمح للأسد، مما سيساعد النظام في التغلب على التحديات التي تفرضها العقوبات الغربية عليه.
وإذا كانت هذه الحجة قد تحمل بعض الحقيقة تقنياً، فإن تنفيذها ستكون له قصة مختلفة؛ إذ إن افتقار النظام إلى الإيرادات ومحدودية وصوله إلى العملات الأجنبية، أفضى إلى زيادة نفوذ روسيا، ومكنها من بيع القمح للحكومة السورية بأسعار أعلى بكثير من سعر السوق. وقد صرح رئيس الوزراء حسين عرنوس عام 2021، بأن الحكومة استوردت 1.5 مليون طن من القمح الروسي بسعر يقارب 319 دولارا للطن الواحد، بينما لم يكن سعره عالميا يتجاوز وقتها 235 دولارا.
أياً كان السبب الكامن وراء ذلك، فإن هذا السعر المتدني الذي حدده النظام يمثل خطرا كبيرا لأنه يثني المزارعين عن زراعة هذا المحصول الحيوي في المستقبل. وقد يختارون عوضا عنه متابعة أنشطة أخرى تقدم مردوداً أفضل.
ويبقى ما يثير القلق أن إنتاج سوريا من القمح عام 2022، انخفض بنسبة 75 في المائة عما كان عليه قبل عام 2011، حسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة. لذا فإن سياسات النظام القصيرة المدى لا تعرّض إنتاج الحبوب فقط للخطر، بل تعرّض الأمن الغذائي للبلاد للخطر لسنوات قادمة.