الفلسفة أم العلوم، بمعنى أن كل العلوم، سوى الوحي الديني وعلومه، هي فروع من الفلسفة، الرياضيات والفيزياء والكيمياء والاجتماع وعلم النفس كلها خرجت من رحم الفلسفة. وهو رحم ينبغي ألا تفرط به الإنسانية.
لكن ما كان يحدث هو أنه ما إن يتوسّع الكلام وتتعدّد وتتشكل النظريات في علم ما، حتى يبلغ الاكتمال والنضج، حتى يعلن استقلاله عن الفلسفة. هذان النضج والاستقلال لم يحدثا تماما إلا بعد الثورة العلمية التي انتهت بموت إسحاق نيوتن في 1727. نيوتن نفسه لم يُدرك الانفصال الذي وقع بين العلم والفلسفة، وبرهان ذلك أنه عنون أعظم كتبه "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" رغم أن هذا الكتاب من أصول الفيزياء المريضنة (نسبة للرياضيات) التي أدخلت على علم الطبيعة، وقد صاغ فيه نيوتن قوانين الحركة التي تعدّ أساس الميكانيكا الكلاسيكية، كما صاغ قانون الجاذبية العام، ومع ذلك ظلّ يستخدم مصطلح "فلسفة".
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تصوّر العلماء أن الفرق بات واضحا بين النظرية العلمية والنظرية الفلسفية، فالأولى تقوم على التجربة، ولا تتحدّث في الغيبيات، وجاء زمن لا يكاد أحد يستخدم فيه مصطلح "فلسفة" وغدا الفلاسفة كائنات منقرضة من قبيل الديناصورات.
في القرن العشرين عاد شيء من الاعتبار إلى الفلسفة عندما انكسر بعض كبرياء العلم واستقر رأي الأكثرية على عدم دقّة الفكرة التي أطلقها علماء القرن التاسع عشر، من أن العلم حلّ لكل المشكلات
في القرن العشرين عاد شيء من الاعتبار إلى الفلسفة عندما انكسر بعض كبرياء العلم واستقر رأي الأكثرية على عدم دقّة الفكرة التي أطلقها علماء القرن التاسع عشر، من أن العلم حلّ لكل المشكلات وما لم يحلّه من قبل فسيحلّه قريبا. من هذا الباب عاد الفلاسفة إلى المشهد، إلا أنه جرى التفريق بينهم، فأصبح لدينا فلاسفة ماديون وآخرون مثاليون،وهو تقسيم قديم ومعروف لكنه لم يكن جذريا،حتى جاءت الماركسية اللينينيةوحفرت الخنادق ووضعت الختم النهائي لتثبيت هذا التفريق الذي يفتقر إلى الدقة.
تنظر في الموسوعة الفلسفية الروسية التي أشرف على وضعها روزنتال ويودين، فتجد أنها تصف وليام جايمس بأنه فيلسوف مثالي دافع عن الدين وانتمى لمنظمة خاصة في نيويورك لبحث التجربة الصوفية، وكأن هذه التجربة في نظرهم هي الدين، رغم أن نظريته "الواحدية المحايدة" تعرّف المادي والروحي بأنهما جانبان مختلفان لتجربة واحدة، وأن الاختلاف بين العقل والمادة عنده ليس إلا اختلافا في التنظيم.
ويصف لينين ديمقريطس بأنه الفيلسوف المادي في الأزمنة القديمة، رغم أنه يؤمن بالروح، وبآلهة الإغريق. وفي الموسوعة، يرد اسم أمبادوقليس ويوصف بأنه مادي، رغم روحانيته التي وصلت به حدّ ادعاء الألوهية ورغم مشابهته لفيثاغورس في عدد من النواحي. كما يوصف خوسيه أورتيغا بأنه مثالي ذاتي، وهيغل بأنه مثالي موضوعي، وأفلوطين كذلك، وابن سينا يراوح بين المثالية والمادية، وتوما الإكويني مثالي، وهنري برغسون مثالي، وبرنتانو مثالي، وكل هذه الأحكام المتعاقبة.
لقد أحسن الباحث العربي الاستثنائي حسين مروّة عندما أسمى كتابه الأشهر "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، فهذا ذكاء وتحصيل للدقّة، والنزعة لا تنفي وجود النزعة المضادة. لديك نزوع إلى العلم التجريبي المادي لكنه ليس كل شيء، فهناك نزعات مثالية ونزعات مادية أو هناك نزعات واقعية ونزعات عقلانية تعتري المفكر، بدلا من أن نقول هناك فلاسفة مثاليون وفلاسفة ماديون ثم نحفر بينهم الخنادق. هذه الخنادق يجب أن تُردم ذلك أن الفيلسوف الواحد قد تكون فيه نزعات مختلفة من عدة مذاهب ويمكن أن يستخدم أكثر من منهج فيما يكتب ويقرر، ومن الممكن جدا أن تكون روحه عبارة عن أشلاء وشذرات من محطات كثيرة مرّت بحياته.
الفكر الفلسفي ليس كالفكر العلمي الذي يسعى إلى كشف الحقائق الثابتة في العالم المشاهد المحسوس، بل مهمته أشمل بكثير، خصوصا عندما نستشعر ضآلة المساحة التي يحتكرها العلم من حياتنا
ولو دققت النظر لوجدت في عدد ممن يُنسبون إلى الواقعية نزعات مثالية وروحية لا تخطئها العين، ولو فعلت الشيء نفسه مع العقلانيين المثاليين كهيغل لوجدت عنده نزعة واقعية لا شك فيها، ففلسفته تنتقل من التجريد إلى الواقع العيني الملموس. وهو لم يتقدم بتفسير منطقي للعالم، وإنما سعى ليجمع كل موجود في إطار عقلاني واحد، فهو مثالي وواقعي في الوقت نفسه، لأنه يجمع لحظات الواقع كله ويصنع منها حقيقة فلسفية في لحظة وقوعها، وهو مثالي لأنه يضع الواقع في إطار عقلاني.
الفكر الفلسفي ليس كالفكر العلمي الذي يسعى إلى كشف الحقائق الثابتة في العالم المشاهد المحسوس، بل مهمته أشمل بكثير، خصوصا عندما نستشعر ضآلة المساحة التي يحتكرها العلم من حياتنا، أتحدث عن العلم بمعناه الأدق ولا أقصد التكنولوجيا. العلم لا يتكلم، وحده عقل الإنسان والفكر الفلسفي هو القادر على الإثارة الدائمة لعقول الناس والتحفيز على التفكير حتى يعيدوا اختبار أجوبتهم على المشكلات بكل أنواعها، ولو انتهى بنا الأمر يوما ما إلى إجابة نهائية فسنكون بذلك قد جمدنا وانتهى أمرنا.