التمايز الهوياتي
وبصفة عامة فإن رجال الدين في طرابلس، حتى من هم خارج المواقع والمناصب، يتمتعون بمكانة معنوية واجتماعية كبيرة. ويتجلى حجم الموروث الديني في الثقافة العامة والمجتمعية، والعادات والتقاليد، والتي تبطن موقفا سياسيا عاما يقطع مع الحاضر ويحاول الربط مع الماضي في "نوستالجيا" تاريخية، فتبدو المدينة في حالة انفصال بين روحها الهائمة في التاريخ، وجسدها التائه في واقع مرير لا تعرف إلى الخروج منه سبيلا.
الشاهد الأكبر على ذلك هو شهر رمضان المبارك. فالمدينة تبدو في حالة سبات عميق طوال السنة، لا تستيقظ منه إلا في شهر رمضان الذي يضخ في شرايينها أكسير حياة متجددة، مفعمة بالنشاط الحافل بالعادات والطقوس الدينية. بما يعكس مدى حرصها على هويتها الدينية وتمايزها عن باقي المدن اللبنانية في الشهر الكريم الذي يعيد اليها بعض المجد التليد.
وخلال الشهر الكريم يستطيع أي زائر أوعابر سبيل أن يلحظ مدى طغيان طابع التدين على الثقافة العامة. فترى المساجد تزدحم بالمصلين، ورجال ونساء يتلون القرآن في الدكاكين والمحال التجارية، وبعضهم حتى أثناء المشي. وتعود العباءة بما هي رمز إسلامي الى الظهور بكثرة. فضلا عن ذلك، فإن الكثير ممن يؤدون زكاة أموالهم يحرصون على إخراجها في شهر رمضان للحصول على أجر أكبر، بما يؤدي في الوقت عينه الى إنعاش الحركة التجارية في المدينة لتتصدر المدن اللبنانية قاطبة في هذا الشهر فقط.
ويظهر الإصرار على التمايز الهوياتي في اتخاذ بلدية طرابلس مطلع الألفية الثانية قرارا باعتماد ذكرى تحرير المدينة من الصليبيين على يد المماليك في 26 أبريل/ نيسان 1291 عيدا خاصا تحت مسمى يوم طرابلس، وذلك بمشورة من مؤرخ المدينة عمر تدمري، وتحت ضغط النخب الطرابلسية. وللمصادفة البحتة فإنه في مثل هذا اليوم من العام 2005 خرج الجيش السوري وأجهزة استخباراته من لبنان، ليكون عيد طرابلس عيدين، ولا سيما بعد ما قاسته من أهوال على يد هذا الجيش حينما حاصرها في منتصف الثمانينات ودك أحياءها بالقذائف والصواريخ، وترك ميليشياته ترتكب المجازر وتروع الآمنين.
ومع أن مساهمة طرابلس في استقلال لبنان عن فرنسا كانت عميقة الأثر ومخضبة بدماء 14 شابا سحلتهم مجنزرات قوات الانتداب، حينما شاركوا في مظاهرة شعبية حاشدة تطالب بإخراج رئيس الجمهورية والحكومة وبعض الوزراء من محبسهم في قلعة راشيا، إلا أن الرواية الرسمية أسقطت هذه الحادثة بشكل متعمد في استمرار للعلاقة الملتبسة بين المركز والمدينة الطرفية في الشمال. وأتى قرار تعيين يوم خاص بالمدينة والمظاهر الاحتفالية الشعبية والنخبوية به ليزيد من الالتباس، ويعمق هوة الاختلاف الثقافي بين الأقوام اللبنانية، وليمنح طرابلس طابعا ثقافويا انفصاليا شبيها بكتالونيا أو بلباو في إسبانيا.
ولطالما كانت وطنية أهل طرابلس مثار شكوك لا تنتهي من قبل نخب المركز وأهل السلطة بسبب طغيان الهوى العروبي والإسلامي عليها. وحتى في المظاهرة المذكورة آنفا كان الدافع العروبي ضد قوى الاستعمار هو المحرك الأبرز لها أكثر من قضية لبنان واستقلاله. هذا الهوى العروبي دفعها الى أن تكون في طليعة مناصري القضية الفلسطينية عقب النكبة عام 1948، وأن تصبح ناصرية تسير الوفود الشعبية الى سوريا لرؤية جمال عبد الناصر بعد إعلانه الوحدة السورية المصرية عام 1958. لتحتضن بعدها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عام 1983 بعد أن اجتاحت إسرائيل العاصمة بيروت قبل عام لإخراجه ومنظمة التحرير، وصولا الى نصرة الثورة السورية. ولغاية اليوم فإن طرابلس تعد المدينة اللبنانية الوحيدة التي لا تزال بمنأى عن الموجة العنصرية ضد اللاجئين السوريين والتي بلغت مدى غير مسبوق في الآونة الأخيرة. بل على العكس فإنها المدينة اللبنانية الوحيدة التي حصلت فيها مظاهرات داعمة للاجئين السوريين ومنددة بالسلوكيات العنصرية القبيحة ضدهم.
أما الهوى الإسلامي فهو الأصل. فطرابلس هي مدينة المساجد والتكايا والزوايا والمدارس الدينية. كما أن الجماعة الإسلامية، وهي الفرع اللبناني لتنظيم الإخوان المسلمين تأسست في طرابلس. كذلك التيار السلفي، وحزب التحرير، وهيئة علماء المسلمين في تقليد للنسخة العراقية، وغيرها من التنظيمات والجماعات الإسلامية. لكن العروبة كعقيدة سياسية ناصرية ظلت طاغية ومتوهجة أكثر الى حين نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني عام 1978، والتي تأثرت بها الدول العربية والإسلامية، حيث كانت طرابلس الأسرع تأثرا بها مع قيام حركة التوحيد الإسلامي عام 1982 نتيجة ائتلاف مجموعات إسلامية وأخرى ماركسية وزمر من فتوات الشوارع.
واستطاعت هذه الحركة أن تبسط حكمها على مدينة طرابلس بالكامل بشكل أكثر شبها بـ"المحاكم الإسلامية" في الصومال و"حركة طالبان" في أفغانستان، وذلك بدعم إيراني وبتسهيل من الاستخبارات السورية التي استخدمت الحركة للتخلص من خصومها قبل القضاء عليها. لم تستطع هذه الحركة التي لم يكن يجمع بين قياداتها أي رابط فكري أو عقائدي أن تحكم سوى لسنتين فقط، لكنها غيرت فيهما وجه طرابلس بشكل شبه كامل، مع طردها للمسيحيين والعلمانيين من شيوعيين وبعثيين عراقيين وغيرهم. إذ نحت المدينة بعدها نحو التشدد والتعصب على وقع موجة التشجيع العالمي للجهاد ضد الشيوعيين في أفغانستان. وهذا المناخ أرخى بثقله على المجتمع، وساعد التيارات السلفية والجماعات المتشددة في السيطرة على الحيز العام الذي انسحب منه المشايخ التقليديين وخاصة الطرق الصوفية التي تعرض شيوخها وأتباعها للملاحقة والتضييق والتكفير.
من القبضايات الى قطاع الطرق
بيد أن كل ذلك ليس سوى رأس جبل الجليد، فمظاهر التدين الاجتماعي والثقافي تخفي تسطيحا وجمودا هائلين وتفسخا اجتماعيا يحاول أغلب أهل المدينة التستر عنه. لكن، في زمن الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي ما عاد إخفاء أي شيء بالأمر اليسير.
فمدينة طرابلس التي تتشابه من الناحية الديموغرافية والتركيبة السكانية مع سوريا وتركيا، إذ أن أكثرية سكانها من المسلمين السنة، مع أقلية علوية، وأخرى أقل منها مسيحية، ترتبط بهما أيضا من خلال الكثير من العادات والخصائص الاجتماعية، وصلات القربى والجذور العائلية (كثير من عائلات طرابلس جذورها تركية أو سورية). ومنها نظام القبضايات الذي كان ساريا في العصور السابقة، والذي جسدته الدراما التلفزيونية السورية والتركية.
هذا النظام القائم على وجود أشخاص في الأحياء الشعبية يقفون الى جانب الضعفاء، ويجسدون قيما اجتماعية اندثرت مع تعاقب الأزمنة، كان ساريا أيضا في كل المدن اللبنانية. ويحكي المؤرخ البريطاني باتريك سيل في كتابه "رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي" أن الأخير كان يعتبر قبضايات بيروت حزبه ومفاتيحه الانتخابية التي لا تعرف الصدأ، وأنه كان يسيطر على أكثر من ثلثي قبضايات العاصمة اللبنانية، في حين أن منافسيه مجتمعين كانوا يتقاسمون الباقين. بيد أن هذه الظاهرة اندثرت تماما لحساب النخب المتعلمة التي توسّع حضورها ما خلا طرابلس.
في عهد رئيس الجمهورية الجنرال فؤاد شهاب (1958-1964) تشكل أول جهاز استخبارات فعلي. وكما هي العادة في أغلب البلدان العريية فقد دخل سريعا الى العمل السياسي، وأخذ نفوذه بالتنامي عقب الانقلاب الفاشل الذي قام به الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1961، ولا سيما في أوساط القبضايات حيث عمل على شراء ولاءاتهم من خلال الخدمات ورخص السلاح والحماية من العقاب عند حصول المشاكل أو ارتكاب الجرائم. وقد وجد جهاز الاستخبارات في طرابلس الساحة الأمثل لتدخلاته مستثمرا حالة التيه الكبير الذي تعاني منه وتشتت نخبها وشعبية هؤلاء الكبيرة المستمدة من الإرث التاريخي، فعمل على تكوين جيش منهم ووضعهم في خدمة الزعيم الطرابلسي رشيد كرامي الذين كان رئيسا للحكومة وقطبا شهابيا وذلك لتعزيز مكانته الشعبية والنيابية في وجه خصمه الأبرز الزعيم البيروتي صائب سلام.
استمر هذا الجيش بالنمو فيكنف الدولة الى حين انتخاب سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية عام 1970، واختياره صائب سلام رئيسا لحكومة كان على رأس أجندتها الانتقام من رجال العهد الشهابي واستخباراته. فتحول جيش القبضايات الصغير الى ميليشيا من قطاع الطرق والبلطجية وعتاة الإجرام، الذين أقاموا مربعا أمنيا خاصا بهم في المدينة الداخلية ذات الأزقة الضيقة والملتوية والمليئة بالأنفاق والسراديب عرف وقتها بـ"دولة المطلوبين". أسقطت السلطة الجديدة هذا المربع الأمني بعد ملاحقة استمرت حتى مطلع العام 1975، لكنها أعجبت بالنموذج وقررت الإبقاء عليه مع تغيير اللاعبين لكونه يسهل السيطرة على قرار المدينة العاصية بعيدا عن الصداع الذي تثيره النخب ورجال الدين. ويعد هذا النظام أي فتوات الأحياء هو الأكثر رسوخا في المجتمع الطرابلسي والأمضى تأثيرا حتى اليوم.
مع ذلك فإن الدراسات حوله محدودة جدا نظرا لضعف تأثير طرابلس في العملية السياسية. أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات وتحت تأثير الثورة الإسلامية في إيران نشأ في الأحياء الشعبية ما عرف بـ"لجان الأحياء" و"مشيخات الشباب". إحدى هذه المشيخات في منطقة التبانة شمال طرابلس والتي تحولت مع مرور الزمن الى مجموعة عشوائيات وموئلا للنزوح الريفي، أفرد لها الباحث الفرنسي ميشال سورا فصلا كاملا في كتابه "سورية الدولة المتوحشة"، بعد أن عاش معهم عدة أسابيع للإطلاع على تفاصيل حياتهم وحروبهم، وأطلق على تلك المنطقة مصطلحا لا يزال ساريا حتى اليوم هو "الحارة - الأمة". وحسب سورا فإن الحارة في نظر هؤلاء القبضايات تختزل الأمة العربية والإسلامية بأسرها. وكانت هذه الجماعات جزءا من حركة التوحيد التي حكمت مدينة طرابلس لسنتين، بل أن الحركة كلها قامت على بضع مشايخ ومجموعات كبيرة من الفتوات الذين "تمشيخوا".
وعاد الروائي محمد أبي سمرا وتناول هذه الظاهرة بشكل أوسع وأعمق في كتابه "طرابلس - ساحة الله وميناء الحداثة"، حيث بين مدى تأثيرها في المجتمع، وكيف أن ظهور حركة التوحيد كان بمثابة نقطة تحول كبيرة. فمع أنها استخدمت الإرث التاريخي والإسلامي للمدينة الا أنها نحت به صوب التطرف الشديد، الأمر الذي أدى الى تغيير وجه المجتمع المديني. وفي أواخر التسعينات استغلت أجهزة الاستخبارات السورية واللبنانية هذا التحول الاجتماعي واستثمرته في خلق بعبع إرهابي سني، استخدمته ورقة مقايضة مع المجتمع الدولي الذي كان قد بدأ الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي، وذلك مقابل الحصول على دعم دول القرار وخاصة أميركا للنظام في سوريا، وتابعه في لبنان. وشكلت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول فرصة ذهبية لم تفوتها أجهزة الاستخبارات السورية واللبنانية التي سوقت أن طرابلس هي "قندهار" أو "تورا بورا"، وأنشأت فتوات جدد استخدمتهم كشبكات مرتبطة بها يمدونها بالشاردة والواردة، وكذلك قرابين على مذبح الإرهاب لحماية النظامين، ومن يُضحّى به تعوضه الأجهزة بسرعة، المهم أن تبقى اللعبة قائمة.