بعد سنوات من ذلك، اكتشف في سبعينات القرن العشرين نقش في جبل أسيس، في بادية الشام، شرقي محافظة السويداء، يعود لرجل يدعى إبراهيم بن مغيرة الأوسي، أرسله الحارث بن جبلة، ملك الغساسنة، إلى صحراء السلمان مسلحة، أي دورية استطلاع في البادية، عام 529م. وبعد هذه الاكتشافات الثلاث اكتشفت نقوش أخرى بخط الجزم، ولكنها لم تكن مؤرّخة، الأمر الذي أفقدها قيمتها التأريخية، مثل نقش أم الجمال الثاني في بادية الأردن.
تاريخ جديد من السعودية
استقرت نظرية أسبقية بلاد الشام في الأوساط الأكاديمية الدولية، إلى أن ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية نقوش الجزم المؤرخة في المملكة العربية السعودية، لتعيد كتابة تاريخ نشوء الخط العربي المعاصر وتطوره، ولترجع سنوات هذا الظهور إلى القرن الخامس الميلادي.
من الناحية العلمية الأكاديمية بات "نقش ثوبان مالك"، المؤرخ عام 470 ميلادي، والمكتشف في حمى نجران عام 2011، أقدم نقش بخط الجزم العربي حتى الآن، على الرغم من حديث بعض الباحثين بأنه مشوب، من الناحية اللغوية، بالصياغات النبطية، مثل استخدام كلمة "يرح" التي تعني شهر. ويبدو أن ثوبان هذا كان مسيحيا إذ وضع علامة الصليب أعلى كتابته، وهو تقليد نجده في نقوش أخرى كثيرة بعضها غير مؤرّخ. ومع نقش ثوبان، انتقل مكان تطور خط الجزم العربي من بلاد الشام إلى المناطق الغربية في المملكة العربية السعودية، وقد أتى في الأيام الأخيرة "نقش كعب بن عمرو" ليعزز هذه النقلة، وليثبت محورية المنطقة الغربية من المملكة في نشوء الكتابة العربية وتطورها.
المرحلة الانتقالية
ومما يعزز هذه المحورية اكتشاف نقوش المرحلة الانتقالية من الخط النبطي إلى خط الجزم العربي في مدينتي الحجر والعلا شمالي غربي المملكة اعتبارا من القرن الثالث الميلادي. فقبل هذه الاكتشافات عانت دراسات تطور الخطوط العربية من وجود فجوة كبيرة في تاريخ ذلك الانتقال، على الرغم من أن الروابط بين الكتابتين كبيرة جدا، ولا تخطئها عين الدارس، لكن نقوش المرحلة الانتقالية ظلت لغزا يبحث عن حل. ورغم احتواء نقش رقوش بنت عبد مناة المكتشف في مدائن صالح، والعائد لعام 267 ميلادي، على عناصر لغوية عربية لا لبس فيها، غير أنه مكتوب بحروف نبطية معيارية من المرحلة المتأخرة. ولذلك عدّه الباحثون من نقوش المرحلة الانتقالية لغويا وليس كتابة. وكذلك الأمر فيما يخص نقش امرؤ القيس الشهير والمعروف باسم "نقش النمارة" في بادية الشام، وهو نقش عائد لأحد ملوك الحيرة، هو الملك امرؤ القيس بن عمر بن المنذر مؤرخ في العام 328 ميلادي، ومكتوب بلغة عربية ولكن بحروف نبطية معيارية.
وذهبت الدراسات منذ عقد السبعينات للقول إن المرحلة الانتقالية من الخط النبطي إلى خط الجزم العربي تمت في جنوبي بلاد الشام، وتحديدا في منطقة العقبة، وذلك بعد الكشف عن نقوش تخص ملوكا من الغساسنة أشهرهم عدي بن ثعلبة، وهو ملك معروف في المصادر العربية. لكن نقطة الضعف في نقوش العقبة أنها غير مؤرّخة، الأمر الذي يقلل من قيمتها التوثيقية، رغم أنها تحمل الخصائص المتوسطة بين الكتابتين النبطية وكتابة الجزم العربية.
مفاجأة نقش المابيات
وجاءت المفاجأة البحثية ذات العيار الثقيل من منطقة المابيات قرب العلا في شمالي غربي المملكة العربية السعودية، لتضع هذه المنطقة في قلب حركة تطور الكتابة العربية، ولتؤكد أن فجوة "المرحلة الانتقالية" رُدمت مع اكتشاف نقش مؤرّخ يرجع للعام 280 ميلادي هذا نصه: "(..) سلام على قبر رمنة انثته (أي امرأته) بنت يوسف بن عرار الذي من قريا، والتي ماتت يوم عشرين وست بأيار سنة مائة وسبعين وخمس" بتاريخ بصرى.
وكما قلب نقش ثوبان تاريخ نشوء خط الجزم العربي، قلب نقش المابيات تاريخ المرحلة الانتقالية، فقد أكد الباحثون أنه يمثل هذه المرحلة خير تمثيل، ويعيد كتابة تاريح الأبيغرافيا العربية، فهو يصور تحولات الحروف النبطية وكيف تطورت إلى مرحلة وسطى بين عربية الحزم والنبطية المتأخرة. والأهم أيضا أنه يعود للقرن الثالث الميلادي، أي أنه أقدم دليل على بدء تطور الكتابة العربية.
وبعد هذه الاكتشافات ينتظر الباحثون الكشف عن مزيد من نقوش عربية الجزم، خصوصا أن بعض مواقع الهواة نشرت عددا منها، أحدها نقش ملكي مؤرّخ في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، ينتظر في حال تأكيده أن يميط اللثام عن تاريخ مهم من فترة ما قبل الإسلام، المعروفة في المصادر التراثية باسم الجاهلية.