بينما تتسارع الخطى نحو وقف الحرب في اليمن، لا تزال قضايا مهمة عالقة تقف في وجه إمكانية عقد تسوية سياسية شاملة ونهائية للحرب بما يضمن الحد الأدنى من الاستقرار للبلد ووقف الحرب كليا، أبرزها شكل الدولة المستقبلية الذي لا يزال محل خلاف وتجاذب بشكل يكاد يستحيل تصور توافق حولها. فعندما نتحدث عن شكل الدولة المستقبلية، نواجه بعض الأسئلة المصيرية حول علاقة الدين بالدولة، ووحدة البلد، وعلاقة الحكومة المركزية ببقية المناطق.
مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في الفترة ما بين مارس/آذار 2013 ويناير/كانون الثاني 2014، نوقشت فيه قضايا متعددة، بينها علاقة الدين بالدولة والإقرار بالفيدرالية، لكن دون تحديد واضح لعدد الأقاليم التي أقرت بستة أقاليم في لجنة شكلها رئيس الجمهورية في وقت لاحق بعد المؤتمر، وحسمت هذه اللجنة الخلاف الصعب حول الفيدرالية في أقل من شهر، لكي تقر الأقاليم الستة، وهو التصور الذي رفضته العديد من القوى السياسية المهمة، مثل تيارات مختلفة من الحراك الجنوبي والحزب الاشتراكي، وحزب المؤتمر الشعبي المنقسم بجزئه الخاص بالرئيس السابق (حينها) علي عبد الله صالح، و "الحوثيين".
وراء هذا المشهد الرسمي المنشغل بالفيدرالية، كانت دعوات الانفصال من بعض المكونات الجنوبية قوية رغم عدم مشاركتها المؤتمر. أما "الحوثيون"، فكانوا يقدمون تصورات منفتحة حول المرأة وعلمانية الدولة في مؤتمر الحوار الوطني، ويطبقون نقيضها في محافظة صعدة التي كانت تحت سيطرتهم.
لا تعاني التسوية السياسية النهائية في اليمن فقط، من ضعف الثقة بين المكونات المختلفة، بل أيضا التباين الشاسع بين التصورات السياسية المطروحة؛ مما يضيف لها إشكالية غياب الإرادة
بعد تطور الأمور نحو الحرب، صارت التصورات المتعلقة بمستقبل الدولة أكثر وضوحا وتناقضا وبلا مواربة، فالمكونات الجنوبية الميالة لفكرة الانفصال وتأسيس دولة جنوبية مستقلة صارت أكثر حضورا في الساحة الجنوبية وأقوى تسليحا بشكل لا يمكن معه تجاهلها أو التحايل عليها بمكونات جنوبية أخرى أكثر اعتدالا، كما حدث في مؤتمر الحوار الوطني السابق.
أما "الحوثيون"، فبعد اتساع مناطق سيطرتهم من محافظة واحدة نائية لتشمل الجزء الأكبر مما كان يعرف باليمن الشمالي قبل الوحدة العام 1990 بما فيها العاصمة صنعاء، صارت رؤيتهم للحكم أكثر وضوحا، خاصة بعد انفرادهم بالسلطة إثر اغتيال الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح في ديسمبر/كانون الأول 2017، وهي رؤية دينية تتمحور حول فكرة "الولاية" ومفهوم "الاختيار الإلهي" لشخص تجب طاعته، وفي هذه الحالة هو عبد الملك الحوثي، قائد الجماعة.
بطبيعة الحال هذا النمط من الحكم لا يمكنه قبول التنوع وإدارة السلطة بمفاهيم تحترم وتقبل مفاهيم مثل الديمقراطية أو الفيدرالية، وبالتالي لم يعد هناك مجال لأي أرضية مشتركة وسطى بين "الحوثيين" وبقية المكونات السياسية بما فيها الجنوبية التي تطالب بالانفصال، وكان من الممكن أن تكون الفيدرالية حلا وسطا أو مؤقتا.
لا تعاني التسوية السياسية النهائية في اليمن فقط، من ضعف الثقة بين المكونات المختلفة، بل أيضا التباين الشاسع بين التصورات السياسية المطروحة؛ مما يضيف لها إشكالية غياب الإرادة. فلا وجود لطرف يمكنه التنازل عن مشروعه السياسي بهدف مشاركة السلطة مع الآخرين، والحلول الوسط تبدو متعذرة. فبالنسبة لبعض المكونات الجنوبية، يعني هذا خسارتها لجمهورها، أما بالنسبة لـ"الحوثي" فهي خسارة لجوهر فكرته ومنطلق وجوده.
بينما نضجت كل الشروط الموضوعية لوقف الحرب اليمنية على المستوى الإقليمي، وحسم الطرفان الرئيسان على هذا المستوى ضرورة طي هذه الصفحة، لا تبدو الحرب اليمنية بمستواها المحلي قابلة للطي قريبا.
إضافة الى تعذر الوصول لتسوية سياسية، تكمن مشكلة أشد خطورة وهي مناطق النفوذ لكل جماعة مسلحة. فبينما توقفت الاشتباكات المسلحة في سوريا وليبيا بالتزام كل طرف لمساحة نفوذه دون حل سياسي ينهي الصراع كليا، لكن هذه المسألة لا تبدو محسومة في اليمن.
فيما تبدو الخطى متلاحقة وسريعة نحو تسوية لوقف إطلاق النار، فيما يتعلق بالبعد الإقليمي للحرب، تظل الحروب المحلية غير محسومة وتنتظرها جولات قتال إضافية
إذ أن "الحوثي" يمتلك قوة مسلحة أكبر وأكثر تنظيما من غيره من الفصائل اليمنية. ومع غياب عامل الطيران الجوي المرجح لمعسكر خصومه، يظل الأمر مغريا لجماعة عقائدية مثل "الحوثيين" للتمدد العسكري إلى بقية المناطق. والطبيعة العقائدية للجماعة تمنحها الدافع التبشيري الذي تؤمن به كل الجماعات العقائدية التي تفترض ضرورة تطبيق نظرية حكمها على الجميع بغض النظر عن أي حدود أو اختلافات سياسية أو اجتماعية.
الجنوب أيضا، توجد فيه بذور توتر مختلفة، فالفصيل الأكثر حضورا وهو "المجلس الانتقالي" يتحدث عن الجنوب ككتلة سياسية موحدة وهذا لا ينطبق على واقع الحال، فالجنوب تتقاسمه فصائل مسلحة مختلفة وقوى إقليمية متعددة تعزز من انقساماته المناطقية. لذلك لا تبدو مناطق النفوذ في الجنوب محسومة ونهائية، إذ أنها تنتظر جولة جديدة من القتال ترسمها بشكل يتناسب مع قوة الجماعات الجنوبية المختلفة.
أخيراً، فيما تبدو الخطى متلاحقة وسريعة نحو تسوية لوقف إطلاق النار، فيما يتعلق بالبعد الإقليمي للحرب، تظل الحروب المحلية غير محسومة وتنتظرها جولات قتال إضافية.