في ذكرى ولادة الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة المائة والعشرين، استذكره بعض الشُّعراء والكتّاب، في احتفاليّة أُقيمت في بيروت، حاولوا فيها العودة إلى شِعره ودوره الكبير في الحداثة الشِّعرية.
إلياس أبو شبكة اليوم، وفي هذه المناسبة سبقته أعماله: من "غلواء" إلى "أفاعي الفردوس"، إلى "الألحان"، فـ"القيثارة" فـ"نداء القلب" فـ"إلى الأبد". سبقته وحطّت أمامنا بكل شفافيّاتها وهشاشاتها وقوّتها وعنفها ولم تأتِ فرادى. وإنّما هكذا كأنّها على شاشة واحدة وبحركة واحدة وبصورة واحدة. فكأنها واحدة، رغم تنوّعها وما يتفاوت أو يتساوق أو يتآلف أو يتنافر في تضاعيفها وتفاصيلها وحالاتها. فأبو شبكة، ذو الحالات والأمزجة المختلفة، وذو الهشاشة والعنف والتدفّق والخصب وكذلك التمزّق والتردّد والارتباك والخوف والتطلع بلا وَجَل في كيمياء التناقض والتفجّر، أبو شبكة واحد في قصائده. أو متعدّد في قصيدته تهبّ عليه رياح الخطيئة فليتطهّر بها! وتعصف به كوابيس التواريخ والأنبياء والوصايا فليستنزلها كما هي أجساداً من لعنات. أو فوهات "تنور" أو أعمدة محترقة! فليطهّرها من تواريخها ومن أعبائها عليه وفي روحه. وينسم عليه الحب فليَعِر له حواسه وروحه أخفّ من هواء يلامس الغابات والجبال، وأشفّ من "لحن" بلا ثقل وحتى بلا صوت. وتنقلب عليه الشهوات والرغبات فليتقلّب على لظاها وحفيفها وهوائها ونسائها ولينطعنْ بالندامة (المسيحية)، ولينحرق بتبكيتها قبل أن يعاود أفعالها ويرتكب المآثم.
فليمرّ إذن كل شيء بهذا الجسد، مكمن المشاعر والجروح واللذّات والكسور، فليمرّ إذن كل شيء بالحواس: مفتاح العالم ومفتاحها القلب ولغيره الأفكار الكبيرة والمجرّدات والماورائيّات وسلطان "العقل"، والمنطق المتماسك، واللغة المرصوفة والعمارات المنحوتة والمعادلات الذهنية، فكل ذلك كأنه من خارج الحواس أي من خارج الغرائز الكبرى أي في النهاية من خارج الطبيعة. فالشاعر، وهو جزء من وحدة الكون، جزء من غرائزه المكتملة. والشعر هو أُمّ هذه الغرائز ولا يمكن استبداله بما ينتجه من غير مادته، ولا يمكن صناعته بما يحيله على غير مكوّناته العضوية "النهائية والناجزة. فكلّ شيء يُدرك الشاعر في بنيته الكاملة. إنها لعبة "النبوءات" أو "الآيات أو الوحي. والباقي من تصنيف ومن فبركة. هكذا واجه أبو شبكة قصيدته وقصائد الآخرين ولا سيّما سعيد عقل والرمزيين ولِمَ لا البرناسيين (أمين نخلة). فالصناعة (أو التصنيع) خيانة لجسد القصيدة المولودة بكل أسرار الخليقة والجمال والنقاء. إنها تجعل من القصيدة أو من الحالة المهيّئة أو التابعة لها كائنا ناقصا. أو بالأحرى "شيئاً" ما من أشياء جامدة سواء جاءت "كالتحفة" أو كالكاتدرائية أو كالعمود. فلا بدّ من أن ترفعها هناك، برودة أو تتخلّل بلورها ملامس صقيع. إنها المسافة بين القصيدة والشاعر ألغاها أبو شبكة. لا فجوة بين السرّ وظلاله، بين الصوت وصداه. فلا تآويل باطنية، أو دلالات أو مناخات مذهّنة توحي أو تومئ. أو تترك المعنى ناقصا. فهذا بالنسبة إلى أبو شبكة يؤدي إلى الغموض أو الإبهام وهي ضلالة مستوردة من "رمزيّة الغرب" ولا سيّما بول فاليري وبعض الرمزيين الفرنسيين الذين أثّروا في شعراء ساجَلَهم شاعرنا بعنف وخصوصاً سعيد عقل. وهي ظاهرة لا تنسجم لا مع البيئة التاريخية (العربية) ولا مع البيئة الجغرافية والاجتماعية. فها هو يعلن بلا مواربة "الواقع أن الغموض في الشِّعر دخيل على الادب العربي، فهو من الكتب لا من الجوّ. فجوّ الشرق صريح مشرق، فلا مبرّر لهذا الغموض في شِعرنا".
لكن هذه المساجلات التي تعكس مناخات صراعية حول الشعر تبقى في الحدود النسبية كأنما شبه وهمية. فلا الغموض عند سعيد عقل وقبله أديب مظهر ويوسف غصوب إبهامي، ولا هو كوّن إشكالية. اذ بقي الغموض عند هؤلاء حالة شكلانيّة جزئيّة كي لا أقول حالا بلاغيّة لا تتجاوز بعض التراكيب والنعوت المحدودة.
فالشاعر، وهو جزء من وحدة الكون، جزء من غرائزه المكتملة. والشعر هو أُمّ هذه الغرائز ولا يمكن استبداله بما ينتجه من غير مادته، ولا يمكن صناعته بما يحيله على غير مكوّناته العضوية النهائية والناجزة
ونظنّ أن غموض الحالات والمزاجيات عند أبو شبكة أجلى مما هو موجود عند مَنْ ذكرنا. فإلياس أبو شبكة ابن التوترات النفسية والروحية والفيزيائية الدائمة. إنه، بمعنى من المعاني شقيّ الروح والجسد، لأنه يخضع باستمرار لتجربة "المحرّمات" أي تجربة "الخطيئة". ملاك يسقط في كل لحظة في ضعفه. وهذا ما يعتمل قلقا في جسده وروحه. فالقلق يأتي من علاقته بالدِّين ومن علاقته بجسده. ومن علاقته بالمرأة بؤرة مشدودة مشحونة بأسئلة وعذابات وباعترافات، فهو ليس مرتاحا إلى عقله السعيد المنتصر أبدا كما هي الحال مع سعيد عقل الذي قلّما استشعرنا بأنه قلق على ما حواليه وعلى ما فوقه وتحته وعلى شِعره ومعتقداته. وقلّما شعرنا بأنه يعاني تمزّقا أو حيرة بين حقائق أو تواریخ على عكس أبي شبكة الذي يتحرّك في جروحه. وفي ندوبه. صحيح أن أسئلته قد لا ترتفع إلى مستوى أسئلة ميتافيزيقية معقّدة ومركّبة إلا أنها تبقى مقلّبة المواجع ومثيرة الخوف والندامة والتوبة وإن بلا طائل. ربّما صلاح لبكي في قصيدته الطويلة "سأم" يلتقيه في هذه الحالات القلقة (وإن متأثراً بأبي العلاء)، إلا أن أبا شبكة ينفرد عن مجايليه الآخرين كسعيد عقل وقبله الأخطل الصغير ومن ثمَّ أمين نخلة. فالغموض لدى هولاء وخصوصاً عند من يحبّذه كأمين نخلة وسعيد عقل لا ينخرط في لعبة داخلية أو معاناة. إنه مجرّد مجاز. مجّرد أسلوب كي لا أقول مجرّد تزويق. صحيح أن سعيد عقل تأثّر بفاليري لكنه بقي على حفافيه. فعند فاليري وخصوصا في "نرسيس" و"المقبرة البحرية" ملحمة بؤس داخليّة. تكسر مرايا وأسئلة جارحة كاسرة تصل إلى حدود العبث بل وأقول إلى حدود "السورياليّة" الداخليّة. والغموض هنا جزء من حالة وجوديّة. ذهنيّة دينيّة فلسفيّة في أي جزء من رؤيا مركّبة مصوغة في قصيدة مركبة. وهذا ما لا نجده لا عند سعيد عقل ولا أمين نخلة وعلينا أن ننتظر مرحلة الستينات وما بعدها كي تتبلور أكثر هذه المصوغات المرئية والداخلية والسرية.
أريد أن أقول إن أبا شبكة يحمل في شعره من القلق والتوتر والخوف والتناقض والضعف والقوّة والشعور اللاادري بالموت الداخلي وبالخطأ وبالخطيئة ما يجعل بعض قصائده تنضح "بغموض" هذه الحالات وخصوصا في ديوانه "أفاعي الفردوس" وحتى في بعض "غلواء". وهذا ما لا نجده في لعبة "الجماليّات" الشكلانيّة عند سواه.
يحمل أبو شبكة في شعره من القلق والتوتر والخوف والتناقض والضعف والقوّة والشعور اللاادري بالموت الداخلي وبالخطأ وبالخطيئة، ما يجعل بعض قصائده ينضح "بغموض" هذه الحالات
على أن أبا شبكة عبر عن هذه التمزقات والشروخ الفيزيائيّة والروحيّة (وحتى الاجتماعيّة) بقصائد توحي البساطة. اختزل هذا العصف الداخلي بجملة شِعريّة مشحونة مليئة معبأة لكن مع هذا تكوّن مناخا ما (لقاء مع الرمزية) توراتيا هنا، دينيا هناك، شفّافا هنالك ولا سيما في "الى الأبد" و"الألحان" أي جملة تختزن لعبتها في جوانيّتها، بلا جماليات أو تسجيل براعات وبلهوانيّات فهنا تحرق بعض قصائده أصابعك إن لامستها، بعنف فيزيائي في الجملة والتراكيب والقافية والإيقاع. وهناك تبترد قصائد من قوة ما لشفافياتها. فهنالك القصائد مكتوبة "بالنار" وهنالك بالهواء وبالماء وبالحفيف وبخفّة الأشياء... وأبو شبكة في عنفه وغضبه وسوراته وفوراته وردود فعله هو ذاته أبو شبكة الضعيف، الهشّ، الأخفّ من نسمة، الأصغر من دمعة. فشِعره سجّله. دفتر جسده وروحه. حبره "الصيني" وحبره المائي". لم يلحقه بأيديولوجيا. ولا بوظيفة اجتماعيّة. ولا لتكريس موقع اجتماعي. ولا لاستدرار تصفيق أو إعجاب صالوني أو إعلامي. فالشِّعر عنده هو كل شيء. أعظم من كل شيء. وأرهب من كل شيء. وأجمل وأرفع وأنبل من كل شيء. وهذا تحديدا ما حمى شِعر أبو شبكة. وهذا ما رفع أسوارا حفظته من التلوّث والرياء والخضوع للمناسبات والابتزاز. الشِّعر ليعبّر عن الكائن. هذا ما يمكن أن نستخلصه منذ رحيل شاعرنا. ومواجهتنا قصائده من دون أقنعة، ولا شرائط زينة ولا بهارات ولا أوسمة ولا ما يغرقها في حرير الاطمئنان والتدجين وتمليس الزوايا.
شاعر قلق مسكون بالهواجس، متوقّد، مشتعل، حرّ، حنون، قاسٍ شفّاف انفعالي صافٍ، نقيّ، معتكر، منقشع من توتر مشدود إنّه حالة من كلّ الحالات، وفي شِعره كذلك حالة من كلّ الحالات... حالة هي تفجّر اللغة وتصفّيها، وترفعها. حالة من الداخل. وأي لغة من الداخل. من الأحشاء.