هناك مفهومان عن الأزمة:
مفهوم "قيامي" يرى أنها، بعبارة ابن خلدون، "تبدّل بالجملة". وأنها "قدَر وقضاء" يتسلّط على المنظومة و"ينزل" عليها، فيهزّ أركانها، ويخلخل كيانها، ويقضي على توازنها، ومفهوم مضادّيرى أنها مخاض ذاتي يخلق توتّرات ويهزُّ بنيات، لكنه يسفر عن انتعاشة وتجدّد.
هذا المفهوم الثاني يرتبط في أذهاننا بمعان لا تكاد تفترق:
فعلى ضوئه تُفهم الأزمة على أنها حالة عبور وانتقال، وأنها دوما "أزمة عابرة". صحيح أنها خلل واختلال، بل هزة ورجّة في بعض الأحيان، غير أنّها سرعان ما تتدارك نفسها وتستقر في توازن جديد تعود بفضله المنظومة إلى العمل بشكل طبيعي. كما أنّها تُفهم على أنّها حالة مرض. وككل الأمراض، فإنّ لها مسبّباتها وأعراضها وطرق تشخيصها ووسائل علاجها. وأخيرا ترتبط الأزمة، في إطار هذا المفهوم، بالشحّ والندرة. الأزمة هي قلة إنتاج وندرة إبداع.
مجمل القول إذن إن المفهوم المترسّخ عن الأزمة بهذا المعنى الثاني، هو أنّها حالة سلبية ظرفية عرضية، فهل الأزمة من الرخاوة بحيث لا تتمتع إلا بهذا الوجود الذي يكاد يلامس العدم؟
كتب رولان بارتذات مرة: "منذ أن بدأت أمارس عملي الثقافي وأنا أسمع عن أزمة: أزمة نشر، وأزمة نقد، وأزمة قراءة، وأزمة إبداع، وأزمة رواية، وأزمة شعر، وأزمة سينما...". وعلى رغم ذلك، يعترف بارت نفسه بأنّ كل هذه الفنون والأجناس لم تعرف قطّ ازدهارا مثل ذاك الذي عرفته خلال حياته. الظاهر إذن أنّ الأزمة لا تكون دوما عابرة، وأنّها مقامات وليست مجرّد أحوال، بل إنّها غالبا ما تكون أزمة مستأنفة. إلا أنّ الأهمّ هو أنّها لا تعني بالضرورة شحّ الإنتاج، ولا ندرة الإبداع.
إذا سلّمنا بأنّ كل تشكيلة اجتماعية متفاوتة المستويات، وأن زمن السياسي ليس بالضرورة هو زمن الاقتصادي، ولا هو بالأوْلى زمن الثقافي، تبيّن لنا أنّ الأزمة لا يمكن أن تكون إلا قطاعية، وأنها قد تكون عسرا ووبالا على مستوى، لكنها تكون يُمنا وبركة على آخر. لنتذكّر المجتمع الإسلامي خلال القرن الرابع الهجري بأزماته السياسية والاقتصادية المتلاحقة كما وصفها ابن كثير على سبيل المثال، ولنتذكّر أيضا الازدهار الفكري الذي عرفه ذلك القرن. ولنا في تاريخ أثينا، وتاريخ أوروبا الحديثة كثير من الأمثلة على الازدهار الفكري الذي عرفه ما نعت بـ "فترات الأزمات".
نكون أمام أزمة إبداع أو أزمة كتابة عندما تظهر نصوص "متمرّدة" يتعذّر علينا تصنيفها ضمن جنس بعينه من الأجناس المتداولة.النصّ المتمرّد هو الذي ينفصل عما يجري به الأمر عادة، وهذا هو النصّ بالتّحديد في نظر بارت
إذا لم تكن الأزمة علامة على شحّ وندرة فعلى ماذا تدل إذن؟ لو نحن وجهنا السؤال لبارت من جديد وسألناه ماذا يعني عند حديثه عن أزمة الرواية على سبيل المثال؟ فإنه يجيب: "إن ذلك يعني أنّنا لم نعد نضع كلمة 'رواية' عندما يتعلق الأمر بالرّوايات، لكن، بإمكاننا أن نضعها عندما لا يتعلّق الأمر بالرّواية". لا تعني أزمة الرّواية إذن عدم إبداع الرواية، وإنما عدم ملاءمة جهازنا النقدي ومواكبته لمستجدات الكتابة فيما يخص هذا الجنس الأدبي. لا يظهر أن الأمر مقتصر على الإبداع الأدبي وحده. فعلى سبيل المثال، عرفت الرياضيات بمختلف فروعها خلال القرن التاسع عشر أزمات متلاحقة طالت في البداية ميدان الهندسة بظهور الهندسات اللاأوقليدية، وانتهت بما عُرف بأزمة الأسس وظهور الجبر الحديث، وإعلان بوانكري خلال مؤتمر عقد سنة 1900 حلول أزمة رياضية حقيقية، بله أزمة العقلانية ذاتها. حينما ظهرت الهندسات اللاأوقليدية لم يكن هناك شحّ هندسي، بل وفرة هندسية. وتبيّن أنه يكفي تغيير مصادرة بعينها من مصادرات أوقليدس لإقامة هندسة مخالفة، بله هندسات مخالفة. إلا أن الذي اتضح هو أن الجهاز المفهومي الإبيستملوجي الذي كانت تقوم عليه الهندسة الأوقليدية وتحديده لمفهومات الحقيقة الرياضية والبديهية الرياضية والصّرح الرياضي، لم يعد بإمكانه أن يعمل إلى جانب الهندسات الناشئة. الأزمة إذن لم تكن تكمن في النّدرة، وإنما في كوننا أصبحنا نسمي "حقيقة" هندسية ما لم يكن أوقليدس ينعته كذلك، بل إننا استعضنا عن ذلك المفهوم بمفهوم "الصّلاحية". ألا يصدق هذا أيضا على ما يُسمّى اليوم أزمة شعر، وأزمة سينما وأزمة تشكيل، حيث أصبحنا نسمي قصيدة، وفيلما ولوحة ما لم يكن غيرنا يجرؤ على أن يسمّيه كذلك؟فنحن نكون أمام أزمة إبداع أو أزمة كتابة عندما تظهر نصوص "متمرّدة" يتعذّر علينا تصنيفها ضمن جنس بعينه من الأجناس المتداولة. النصّ المتمرّد هو الذي ينفصل عما يجري به الأمر عادة، وهذا هو النصّ بالتّحديد في نظر بارت. فكأن التأزيم من صميم الإبداع والتجديد. كل إبداع تأزيم بهذا المعنى.
على هذا النّحو فإنّ الأزمة ليست مرادفة لمفهومات الانهيار والنهاية، وإنّما هي تدْخُل ضمن نسيج الحركة التاريخية للمنظومة. في هذا الإطار، فإنّ النظام الرأسمالي ينظر إلى نفسه، فلسفة وإبداعا واقتصادا وسياسة، على أنّه لا ينمو إلا عبر أزمات. ينظر هذا النّظام إلى الأزمة، لا على أنها مصيبة تحلّ به، وإنما على أنّها مقوّم من مقوّماته، وأنّها من صميم عمله وسيره، وأنها دعامة من دعائمه، وليس على أنّها لعنة تتسلط عليه من خارج. فليست الأزمة على هذا النحو حالة سلبية ظرفية عرَضية. إنّها تطبع مقوماته الفكرية ومؤسساته السياسية وآلياته الاقتصادية.
بهذا المعنى فلا تعني العودة إلى حالة التوازن أنّ الأزمات تغدو في حكم ما ولّى وانقضى، إذ سرعان ما تعود الأمور إلى الاهتزاز، وتأخذ في التأزيم. نحن إذن أمام أزمة مستأنفة، هي بمثابة المرض بالنسبة إلى الصحة، والموت بالنسبة إلى الحياة، والتناتوس بالنسبة إلى الإيروس.