القاهرة: رحل عن عالمنا صباح الأحد الروائي المصري حمدي أبو جليل، أحد أبرز الأصوات الروائية في جيل التسعينات، من مواليد 1967 في مدينة الفيوم، اهتم في كتابته بالتأريخ لعوالم المهمّشين المجهولة التي لم يُكتب عنها كثيرا في الرواية المصرية.
فكانت البداية في روايته الأولى "لصوص متقاعدون" عام 2002 التي تدور أحداثها في بيت بسيط بحي منشية ناصر، ذلك الحي العشوائي الذي يحمل سكانه طبيعته من البؤس والفقر، يحكي حياة عدد ممن يمتهنون السرقة هناك، بين "أبو جمال" صاحب البيت وأبنائه الذين يقضون يومياتهم في الشجار اليومي والانغماس في تناقضات الحياة التي يعكسها أبو جليل بأسلوب ساخر، وقد لاقت الرواية استحسانا نقديا كبيرا، وكانت بمثابة شهادة ميلاد أبو جليل الأدبية، وكتب عنها عدد من النقاد منهم محمد بدوي الذي قال:
"في لصوص متقاعدون سخرية مدمرة تكشف عن شك يكاد يتحول إلى يقين في لا منطقية العالم وخداعه لنا... الكاتب يُحول السخرية لا إلى صوت معبر عن مجرد القمع، حيث السخرية أداة المقموعين بل إلى تجريد العالم من زيفه الذي يُقنّع الحقيقة المنطوية على نقيضها، أي تصبح السخرية وسيلة لتوليد فلسفي، لابد له من أن ينطوي على الشك والريبة وإرهاف الأدوات وصقلها".
في "لصوص متقاعدون" سخرية مدمرة تكشف عن شك يكاد يتحول إلى يقين في لا منطقية العالم وخداعه لنا... الكاتب يُحول السخرية لا إلى صوت معبر عن مجرد القمع، حيث السخرية أداة المقموعين، بل إلى تجريد العالم من زيفه
محمد بدوي
الفاعل لقطة الانطلاق
بعد ذلك بسنوات يصدر أبو جليل روايته الثانية "الفاعل" التي يرصد فيها عالم الأجراء الذين يعملون بالطوب والرمل ويبنون بيوتا لا يسكنونها، يرصد تلك المعاناة من واقع خبرة ومعايشة، بل ويدرك القارئ مع سطور الرواية أنه كان واحدا من أولئك "الفواعلية"، ولكنه كان نموذجهم المثقف الذي يكتب القصص ويحلم بكتابة رواية، استطاع أن يعبّر عن ذلك العالم المقهور وما يلاقي من صعوبة في معيشته وحياته، وأن يسخر من ذلك كله، أو يلتقط من ذلك الواقع وتلك الهزائم ما يجعله يتجاوزها بالسخرية منها:
"قرأت بالصدفة سيرة أحد الكُتاب الأجانب، لم أقرأ له حرفا قبلها، ولكن اسمه كان يتردد بكثافة في محيطي الأدبي حياة قاسية حقا، اشتغل في مهن تبدو حقيرة حتى بالنسبة لنفر مثلي، غير أنها كما أكد المترجم: 'أَثْرَت تجربته الإبداعية، وتركت ما يكفي لإنعاش شيخوخته، وأثبتت ـ وهذا هو الأهم ـ أنه حفر في الصخر حتى نال مجده الأدبي'. أنا فكرت في مسألة مجدي الأدبي. كانت غفوة، عُدت منها ناسيا الكاتب والسيرة والشقاء ذاته ورفعت شيكارة الرمل واندفعت إلى السلم..".
كان من حسن الحظ أن فازت هذه الرواية بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 2008، ورسخت حضور حمدي أبو جليل في المشهد الروائي، إذ سرعان ما صدر منها طبعات متتالية عن دار ميريت، كما صدرت طبعة منها من دار الساقي، وترجمت إلى الإنكليزية.
ورغم النجاح الذي حققته هذه الرواية إلا أن أبو جليل أخذ وقتا أطول، كما قال، حتى يخرج بروايته التالية التي مكث في كتابتها وتنقيحها نحو 10 سنوات، حتى ظهرت للنور روايته المتميزة "قيام وانهيار الصاد شين" عام 2019، ويحكي فيها عن أصحاب تلك الجنسية التي منحها معمر القذافي للمصريين من سكان الصحراء الشرقية، حيث عالم البادية المصرية المعروفين باسم "العرب" ورحلة الهجرة إلى ليبيا بحثا عن لقمة العيش، والصعوبات التي يواجهها المهاجرون هناك، يحكي عن ذهابه إلى الحي الصناعي في "سبها" موطن الصاد شين ومعقل المجرمين، على حد تعبيره ، وعن معاناة أهل تلك المنطقة وساكنيها من مهاجرين باحثين عن فرص العيش بعد أن طردتهم أوطانهم، تلك الهجرة إلى ليبيا التي يشير إليها أبو جليل باعتبارها الخيار الأمثل للفقراء الذين يعيشون على الكفاف (الميح). وتنقلنا الرواية من قاع المجتمع الليبي والحياة فيه إلى كارثة أخرى تتمثل في المهاجرين غير الشرعيين لإيطاليا وما يلاقونه في سبيل ذلك من تشرد وضياع!
رواية سريعة الإيقاع شديدية التأثير، يلمح فيها القارئ صدق كاتبها، وقسوة الحياة عليه وعلى أولئك المساكين الذين يحكي عنهم وعن صراعاتهم ومشكلاتهم، وكيف يلقي كل واحدٍ منهم بالقهر والظلم على الأقل منه، رغم أن كلهم في الهم سواء!
تُرجمت رواية "قيام وانهيار الصاد شين" تحت عنوان "رجال ابتلعوا الشمس" على يد الراحل همفري ديفيز، وحصلت على جائزة بانيبال الأدبية عام 2022 .
وكانت آخر روايات أبو جليل "يدي الحجرية" الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب 2022، وفيها يواصل تأريخه لعالم البدو في صحراء الفيوم، فيعود بالتاريخ إلى الهجرات التي تكونت منها قبائل العرب/البدو في الصحراء من أيام الدولة الفاطمية وحتى عصر محمد علي، راصدا التحولات التي جرت على تلك القبائل حتى استقرت أخيرا في صحراء الفيوم، وكيف كان لها إسهام في ثورة 1919 مع عمدة قبائل الرماح في ذلك الوقت حمد باشا الباسل.
يقسم أبو جليل روايته قسمين، تاريخي يعود فيه إلى رصد تاريخ تلك القبائل، وقسم آخر واقعي يحكي فيه جزءا من سيرته الذاتية كأحد شخصيات الرواية أيضا، على طريقته في الجمع بين الشخصي والعام بطريقة شيقة، راصدا أثناء ذلك التحولات التي جرت على البدو من تركهم حياة الرعي إلى الاستقرار في البيوت.
من السيرة الذاتية إلى الرواية
كتب الروائي الراحل الكبير خيري شلبي عن تجربة حمدي أبو جليل، قائلا:
"بحكم علاقتي الإنسانية والعملية بحمدي أبو جليل، كنت أستشف من حديثه عن ذكرياته، من نوادره عن أهله ومن حكاياته الكثيرة عن أعيانهم، تفاصيل شديدة الثراء، فإن تصادف وكان من بين أبناء هذا العالم شاب موهوب في فن الرواية فإنه حري بأن يكون -بتفاصيل هذا العالم وحده- روائيا كبيرا يناطح قامات كثيرة كانت تتمنى لو أنها رُزقت ولو بشطر ضئيل من هذا العالم الثري الذي خرج منه كاتبنا الشاب حمدي أبو جليل".
يجمع النقاد والقراء على أن إحدى خصائص حمدي أبو جليل كانت قدرته على تحويل حياته وسيرته وحكاياته الشخصية إلى روايات، وكان كثيرا ما يشير إلى هذه الخاصية وأهميتها، إذ كان يرى أن على الروائي الجديد أن يبتعد عن النمط الكلاسيكي المتخيل فقط من الكتابة و أن ينطلق بدلا عن ذلك مما يعرف من خبراته وتجاربه الذاتية، وليس هناك ما يعرفه أكثر من نفسه وأسرته، لذلك كتب رواياته معبرا عنهم، فنجد أصداء من سيرته وجوانب واضحة من حياته في كل عمل من أعماله، بل يظهر باسمه ومهنته في رواية "قيام وانهيار الصاد شين"، وهي اقتراحه الخاص في الكتابة الذي يعبر عنه بل ويدعو دوما إليه.
لم يجئ كل ذلك عفويا، بل كان ممارسة أدبية يعيها أبو جليل، وقد عبر ببراعة في كلمته التي ألقاها عشية فوزه بجائزة نجيب محفوظ للرواية عام 2008، إذ قال:
"شكرا لتفهّم الانحراف عن الأستاذ في جائزة الأستاذ، لا ليس الانحراف وإنما العجز.. شكرا لتشجيع العجز، نعم العجز وليس التجاوز، التجاوز يعني القوة، يعني القدرة الجبارة على استيعاب قيمة جمالية وفكرية ثم تجاوزها ببساطة، وتطور الكتابة ـ كما أفهمه ـ يعود في جانب منه إلى الضعف، العجز عن الوفاء بشروط النماذج السابقة، أقصد طبعا النماذج العظيمة السابقة... فالعجز دافع لتطور الكتابة، لاندفاعها في مسارات جديدة، هناك دوافع أخرى بالطبع كاختلاف ظروف الحياة والوعي بها، ولكن العجز ربما لقسوته يحتل مكانة الدفاع الأوجه، العجز عن الوفاء لنموذج سابق يدفع لإنجاز خطوة ما، ترتاد منطقة جديدة وتؤكد العجز في نفس الوقت، خطوة تجمع بين الفرح بجدتها ومغايرتها والحسرة من وضوح عجزها".
إن تصادف وكان من بين أبناء هذا العالم شاب موهوب في فن الرواية فإنه حري بأن يكون -بتفاصيل هذا العالم وحده- روائيا كبيرا يناطح قامات كثيرة كانت تتمنى لو أنها رُزقت ولو بشطر ضئيل من هذا العالم الثري
خيري شلبي
من البادية إلى شوارع القاهرة
عاش أبو جليل في القاهرة ضيفا على الدوام، شعر منذ البداية أن هذا المكان ليس مكانه، وظلّ يعبّر في كتابته عن بيئته وأصوله الأولى، ولم تكن بيئة القاهرة بيئته المثالية، بل ولم تكن طرقاتها وشوارعها إلا "قطعة من جهنم" على حد تعبيره يسعى للهرب منها بأقصى ما أوتي من قوة، ولكن عمله الصحافي اضطره إلى الكتابة عن تلك الشوارع، وهو إذ يروي هذه الحكاية (في مقدمة كتابه "القاهرة شوارع وحكايات") يتجلى للقارئ جانب أساسي من شخصيته الصريحة البسيطة الواضحة، فالكتاب الذي عمل عليه لفترة زمنية طويلة، وقرأ من أجله العديد من الدراسات الشيقة عن القاهرة وشوارعها ليجمع حكاياتها بأسلوبه الأدبي الشيق، كان من الممكن أن يقدمه بطريقة أكثر رصانة وربما استعلاء على القارئ، ولكنه يحكي الحقيقة ولا يشغله غيرها.
وهكذا وجد ابن البدو والصحراء نفسه أمام شوارع المدينة ومعالمها البارزة يدون ويرصد ويكتب، ويواجهه سكان هذه المدينة وأصحاب منشآتها بالكثير من التحفز بل وينهرونه كأنه متسول! ولكن كل ذلك لم يمنعه من تقصي أخبار الشوارع وحكاياتها، ليجمع عددا من القراءات والأبحاث والدراسات التاريخية الهامة التي تحدثت عن معمار القاهرة وأماكنها التاريخية الهامة وشوارعها بدءا من العصر الفاطمي وحتى العصر الحديث، حتى أخرج لنا كتابا شديد الأهمية يعد مرجعا في بابه، بل وأتبع بعد ذلك بكتاب خاص عن جوامع القاهرة وحكاياتها.
العجز دافع لتطور الكتابة، لاندفاعها في مسارات جديدة، هناك دوافع أخرى بالطبع كاختلاف ظروف الحياة والوعي بها، ولكن العجز ربما لقسوته يحتل مكانة الدفاع الأوجه، العجز عن الوفاء لنموذج سابق يدفع لإنجاز خطوة ما، ترتاد منطقة جديدة
حمدي أبو جليل
التاريخ الإسلامي .. وإعادة القراءة
لم تتوقف محاولات أبو جليل في الكتابة عند الرواية ورصد شوارع القاهرة في مهمة صحافية محددة، وإنما أتاح له التوقف عن الكتابة الروائية مراجعة عدد من المقولات التاريخية القديمة في الأذهان، وسعى من خلال إعادة قراءة التاريخ الإسلامي إلى مساءلته وخلخلة الأفكار الراسخة والثابتة فيه، فجاء كتابه "نحن ضحايا عك" عام 2017، الذي يرصد عددا من لحظات التاريخ الإسلامي بدءا بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ومايعرف بحادث السقيفة الذي كان أساسا من أسس نظام الحكم في الإسلام، مرورا بالحديث عن زوجات النبي ومسألة تعدّد الزوجات، والخلفاء الراشدين وحروب المرتدين، وغيرها من القضايا الشائكة في التاريخ، وهو إذ يقدم قراءته الخاصة، التي يعلم أنها ربما لن ترضي الكثيرين، يؤكد أن هذه مجرد قراءة تخصه، يستند فيها إلى عدد من المرويات والأخبار التاريخية أيضا، ويريد للقارئ أن يعمل عقله وألا يستسلم لمرويات الآخرين.
عاش حمدي أبو جليل يفكر ويكتب ويتأمل، ورحل فجأة ليترك لدى محبيه صدمة كبرى ٍوألما قد لا يزول مع الأيام، ولاشك أن آثاره وكتابته ستبقى خير شاهد على تجربته المتنوعة والثرية.