تقاطعت كل المبادرات والتوصيات والأجندات الدولية على منع عمل الأطفال وتجريمه في شتى الميادين صونا لحقوق الإنسان، وللأطفال غير المكلفين، فضلا عن تعرض هؤلاء إلى أخطار مخيفة لا تقف عند نوع العمل المنخرطين فيه، والأذى الذي يمكن أن يلحق بهم، بسبب ضعف بنيتهم الجسدية، بل تتعداها إلى الإكراه والعنف والتلاعب بهم، والاستغلال الجنسي والابتزاز والانجرار إلى مسارات محددة منذ نعومة أظافرهم.
وعلى الرغم من أن الجهود الدولية والمبادرات الوطنية والاجتماعية التي نجحت في خفض عمالة الأطفال، إلى نحو الثلث خلال العقدين الماضيين، وتفيد آخر الأرقام بأن 160 مليون طفل منخرطون في سوق العمل حاليا. إلا أن الأمم المتحدة، ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة "اليونيسيف"، وغيرها من الجهات التي تعنى بشؤون العمال والأطفال، تتوقع تفاقم الوضع، بسبب الأزمات العالمية المتعاقبة، خصوصا بعد جائحة "كوفيد-19" التي حملت معها الفقر والبطالة، ودفعت بأكثر من 16 مليون شخص إضافي إلى الفقر، علما بأن نسبة الفقر كانت مرتفعة جدا قبل الجائحة، ولا سيما في معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث كان 40 في المئة من مواطني المغرب والجزائر يعملون بأقل من 6,75 دولارات في اليوم، وتصل النسبة في مصر إلى 70 في المئة، وفي اليمن إلى 90 في المئة، بحسب أرقام البنك الدولي.
وجاءت الحرب الروسية- الأوكرانية لتعصف بمؤشرات التضخم، وتحمل مزيدا من الفقر وعمالة الأطفال، ناهيك عن النزاعات المستعرة في أكثر من منطقة؛ السودان مثلا، وضغوط تغير المناخ والجفاف، التي ترخي بثقلها على الأعمال وتدفع نحو السعي إلى ممارسات غير مسؤولة، وغير أخلاقية،
بهدف خفض أعباء الشركات، خدمةً لاستمرارية أعمالها، وضماناً لنسب أرباح المرتفعة. ويقدر عدد الأطفال في العالم الذين انضموا إلى سوق العمل حتى نهاية 2022 بتسعة ملايين طفل.
المسؤولية الاجتماعية للشركات
أسوا ما يمكن أن نشهده، هو ادعاء الشركات التزامها معايير "المسؤولية الاجتماعية للشركات" (CSR) والاستدامة (Sustainability)، و"الاستثمار المسؤول" (Responsible Investment)، وكلها تشدد على وجوب الالتزام بحماية حقوق الإنسان ومكافحة عمالة الأطفال، وفي مقدمها أهداف التنمية المستدامة وأجندة الأمم المتحدة 2030.
ومن الشركات عابرة القارات متعددة الجنسيات، من تجتاح منتجاتها أصقاع الأرض، وتباع بأغلى الأثمان في أرقى المدن والمجتمعات، وتشيد المدارس والمتنزهات ومراكز الرعاية الصحية، بينما تجد مصانعها في دول الصين والهند وبنغلادش وباكستان مثلا، أو حيث العمالة الرخيصة، تشغل الأطفال تحت السن القانونية خلافا لشعاراتها البراقة، مع ما يمكن أن يتركه ذلك من آثار مدمرة لمجتمعات تلك الدول على المدى الطويل. وفي أوضاع أخرى، تفقد هكذا شركات زمام إدارتها نظرا إلى انتشارها الجغرافي الواسع الذي قد يتخطى عشرات الدول، واستعانتها بوكلاء محليين في بعض هذه الدول لتمثيل أعمالها، فينتهك هؤلاء القواعد الأخلاقية الدولية، دون متابعة دقيقة من الشركة الأم، التي يمكن بسهولة تحميلها المسؤولية والغرامات الباهظة في بلدانها، ولا سيما مع توافر التكنولوجيا الذكية للمراقبة والمتابعة لسلاسل التوريد التي تعتمدها.
تقارير الشركات عن "المسؤولية الاجتماعية" وعمالة الأطفال غامضة ... تعنى بالإجراءات من دون أرقام ونتائج ملموسة
يعود تاريخ مكافحة عمالة الأطفال إلى عام 1938 حين صدر قانون "معايير العمل العادلة" الأميركي الذي يحدد ساعات العمل ونوع الوظائف التي يعمل فيها الأطفال دون سن 16 عاما. ثم في عام 1973، أبرم "اتفاق الحد الأدنى لسن العمل"، الذي صادقت عليه 172 دولة، مع بعض الاستثناءات، حتى عام 1989، عند وضع الأمم المتحدة "اتفاق حقوق الطفل" لضمان حماية هذه الحقوق. أما في عام 1992، فقد تأسس "البرنامج العالمي للقضاء على عمالة الأطفال" بهدف الحد من هذا النوع من الاستغلال ودعم الدول في جهودها.
وتطورت هذا الاتفاقات لتشمل في عام 1999 "اتفاق أسوأ أشكال عمالة الأطفال"، الذي صادقت عليه 186 دولة، وتطلب إنهاء العبودية، والإتجار بالأطفال، والخضوع للديون، والعمل القسري في النزاعات المسلحة، والبغاء، والمواد الإباحية، والإتجار بالمخدرات، وغيرها من الأنشطة غير المشروعة. أما عام 2021، فقد أعلنته الأمم المتحدة "عام القضاء على عمالة الأطفال"، واضعة هدفا طموحا لإنهاء جميع أشكال عمالة الأطفال في عام 2025 مع التزام دولي بالهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة التي أعلنت في 2015.
لا صادرات بعرق الأطفال
من المفيد تذكير شركات الإنتاج بأن كثيرا من الدول باتت تضع، إضافة إلى كل ما سبق، معاييرها الخاصة للاستدامة وأخلاقيات العمل كشروط أساسية في تعاملها التجاري مع غيرها من الدول والمؤسسات، حكومية أو مدنية أو خاصة. وأستذكر هنا تجربة خاصة في التعاون مع إحدى هيئات الاستثمار في هولندا، في إطار أحد مشاريعها التنموية لتشجيع الزراعة المستدامة في لبنان وتأهيل المزارعين والمصدرين اللبنانيين للدخول إلى أسواق جديدة وتنمية أعمالهم، إذا ما التزموا بملاءمة سلاسل الإمداد لمتطلبات الاستدامة الأخلاقية والبيئية والاجتماعية، وكان من أبرزها الامتناع عن تشغيل الأطفال. وتم تجميد المشروع لسنوات، وضياع فرصة مهمة لتصدير الخضر والفواكه اللبنانية، بعدما تبين للهيئة أن القطاع الزراعي يشغل الأطفال اللبنانيين والسوريين، ناهيك عن استنزاف النساء في أعمال شاقة مقابل أجور غير عادلة.
تخيل أن تجد على تفاحةٍ شعار "زرع بأيدي أطفال"، كيف تأكلها؟ أو على كوب قهوة "ستاربكس" كيف تشربه؟
وانضمت كندا مؤخرا إلى قائمة متزايدة من الدول، أبرزها هولندا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، التي أقرت تشريعات تهدف إلى التصدي للعبودية الحديثة، وهو مصطلح يشمل عادة العمل القسري، والعمل الاستعبادي وعمالة الأطفال في سلاسل التوريد. إلا أن 24 دولة فقط من أصل 193 دولة عضوا في الأمم المتحدة لديها تشريعات تتناول كل أشكال الاستغلال. لكن لا شك أن تلك التشريعات تبقى حبرا على ورق في غياب الرقابة الفاعلة والمحاسبة الجدية والسلطة القانونية.
ولا شك أن الأرقام المتزايدة لعمالة الأطفال في العالم، وضعف الإنفاق على الحماية الاجتماعية للأطفال والذي لا يتخطى 1,1 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي عالميا، حقا لا تدعو للتفاؤل بجدوى هذه التشريعات وقدرتها على إحداث تحول حقيقي في قطاع الأعمال تحديدا، حيث يطغى الجشع وعدم الامتثال للقوانين الموضوعة أو الالتفاف عليها، وتبقى تقارير الشركات غامضة في هذا الشأن، ووصفية، تعنى بالإجراءات دون أرقام ونتائج ملموسة، خصوصا عندما تكون سلاسل التوريد متشعبة ومعقدة وغير خاضعة للإشراف المناسب.
كيف تأكل التفاحة؟
"صنع بأيدي الأطفال"، وليس "صنع في الصين" أو الهند، أو باكستان، أو بنغلادش.
تخيل أنك وجدت مثل هذا الملصق على قميص أو حذاء يحمل علامة تجارية شهيرة في متجر للسلع الفاخرة بمجمع تجاري مرموق، "هارودز" مثلا، لتعلم أنه مجبول بعرق جبين الأطفال، صغارهم أو كبارهم، ولك أن تتخيل في أي ظروف يعمل هؤلاء الأطفال، وأي معاملة يتلقونها، وأي ثمن يتقاضونه، وأي طفولة حرموا منها، لسوء حظهم في الحياة.
تخيل أن تجد على تفاحةٍ شعار "زرع بأيدي أطفال"، كيف تأكلها؟ أو على كوب قهوة "ستاربكس" كيف تشربه؟
في اليوم العالمي لمكافحة عمالة الأطفال، علينا أن نتذكر أن "الاستدامة"، و"المسؤولية الاجتماعية للشركات"، ليستا مجرد "زرع شجرة"، بل مسؤولية تجاه الفئات الأضعف في المجتمع، ويأتي الطفل العربي المستضعف في الطليعة.