غابة الكتابة السّحرية

غابة الكتابة السّحرية

في مقدّمةِ مصادرِ الكتابة - الروائيّة والقصصيّةِ والشّعريّة - تتبوّأُ الطفولةُ حدائقَ التخييل، إذْ تتماهى عوالمُها السّحرية مع حُلميّة الكتابة. لا كتابة تتحقّقُ بلا حلمٍ، والمعنى هنا مقْصدُه المبدئيُّ أنْ تكتبَ كما لو تحلُم، وهذا بعضٌ منْ أسرارِ لُعبتها أو فنّ صنعتها بالغة التّعقيد والغموض.

تلحّ الطفولة أن تتشكّل غابة، ينزلقُ الكاتبُ إلى ضبابها كلّما يَمّمَ بوجههِ شطْرَ الكتابة، لا من حيثُ لا يعلم ولم يحتسبْ كثيرا، بل أحيانا مُرْغما تكْسرُ صرامةَ مخطّطاته الواعية المُسبقة أيضا.

والطفولة ليست ما يعرفه دائما، بل ما يجهله كلّيا، وهذا ما يفاجئه في معترك الكتابة، إذ بفضل هذه يكتشف كنوز الأولى على نحو مدهش وطارئ.

غير ذلك، فالكاتب لحظة الكتابة يغدو طفلا يلعب، واللعب ليس محض تسلية مجانية، إنه مغامرة وجود محفوفة بالخطورة، تقتضي موهبة جليلة، وجُهدا شاقّا، سندُهُ خبرةُ التجارب –السوداء-، وعزاؤهُ الجمالُ العظيمُ المعسكرُ خلف أقاصي السّرابِ.

في الكتابة كما في الحياة، بالقدْرِ الذي يعيشُ الطفلُ بداخلنا ولا يفقد فضيلةَ الدّهشة، تظلُّ المتعة مضمونة، وهي مربوطةٌ من رسغها بخيطٍ من سديمٍ إلى رسغ الطفل إيّاه، وأنّى فقد الطّفلُ بداخلنا هذه النّعمة، انهار الافتتانُ بالوجود، وانطفأتْ نجمةُ القطب التي تلمع في غسق مجهولنا.

لا أتخيّل كتابة بلا حلمٍ، كما لا أتخيّل حلما بلا طفولة. من يحلم في كلّ كتابة هو الطفل الذي كنته وما أزالُ، بل أصيرهُ، وأجدّدُ صلتي به لحظةَ الكتابة، وهكذا تغدو الكتابةُ الأداة السّحرية الوحيدة التي تُسْعِفُني كي أؤبّد طفولتي.

يغدو الكاتب لحظة الكتابة طفلا يلعب، واللعب ليس محض تسلية مجّانية، إنّه مغامرة وجودٍ محفوفة بالخطورة، تقتضي موهبة جليلة، وجُهدا شاقّا، سندُهُ خبرةُ التّجارب


 ولولا الأحلام ما عرفتُ للكتابةِ متعة، أو أدمنتُ لعبتها على هذا النّحو الغامض والعنيف. والأحلام ليست بالضرورة ما نرسمهُ على سبيلِ التّخييل قبل الكتابة، بل لحظة الكتابة لا غير، إذ تفاجئنا الكتابةُ بأحلامها الخاصّة التي تفيضُ على حدود أحلامنا نحن، ونمسي مندفعين في نهرِ ضبابها الجارف إلى ما لم نتوقّعهُ، وتلك عظمةُ الكتابة، إذْ تلغي دليلَ أو خارطةَ سفرنا المسبقة، وتباغِتُنا بمجاهلِ خرائطها البديلةِ، وعندَ هذه الحافّةِ تتحقّقُ المتعةُ الخالصةُ.

تَحْصِيلُ الرّؤيةِ أنّ المُعْلَنَ من سديمِ طفولتنا يتماوجُ في كتابتنا على هذا النّحوِ:

- ما عشناه في طفولتنا وحاولنا أن ندوّنه على سبيل التّخييل.

- ما نجهله عن طفولتنا، وتسلّلَ إلى كتابتنا على نحوٍ مدهشٍ، فوجدنا أنفسنا من حيث لم نحتسبْ نغنمُ كنوزه فوق ما توقّعنا.

- تتماهى الطفولة مع الكتابة عند ملتقى هذه الطرق: كلاهما مؤسّسٌ  على اللعب. كلاهما مؤسّسٌ  على الدّهشة. كلاهما يؤدي بعضهما إلى بعضٍ  وبخاصّة حين يتوسّلان بالأحلام هكذا مسلك أو شِعاب.

وأمّا الحلم فينتابُ مُجمل ما كتبناه، بضراوة، إذْ موجزُ حضورِهِ يمكن القبضُ   على بعضِ  أثرهِ بأكثر من مرآة:

الحلم الذي يتماهى مع النصّ   فلا نهاية لهذا ولا استيقاظ من ذاك.

النّصُّ   الذي يمشي في اتجاه، بينما يمشي الحلم في الاتجاه المعاكس.

النّصُّ   الذي يُهَسْهِسُ: كل شيء محض حلم.

والحلم الذي يُهَسْهِسُ: كل حلم هو محض نصٍّ.

وكلاهما إذ يتجاوران أو يتشابكان تلفي الكاتب مُهَسْهِسا هو الآخر: ما أنا إلا شبحٌ في نصّهِ لا ظلّ لي إلا حُلمي الذي يفضحُ مكاني الخفيّ.

لا فصل بين الحلم والخيال إلا فيما ندر، فما يجمعهما أكثر ممّا يفرقهما. يتشابك الحلم والخيال في كلّ  مغامرةِ كتابة، حتى يصعب معرفة من ذا من ذاك، لأن التطابق دامغ، وما بين الكيمياءيْن حاجزٌ شفّافٌ أشبه بجناحِ يعسوب.

لذا نستعملُ  الحلم هنا ملازما للخيال في الغالب، مع الحفاظ على هويّة الحلم المستقلّة في الأصل.

ما الطّفولة التي تتخلّفُ وراءنا، وتتقدّمنا في آن؟ ما الطّفولة التي تتقعّرُ كينونتنا ولا تبْرحُ أزليّتها فينا، بل تسبقُنا إلى آتينا؟ ما الطّفولة التي تُهَسْهِسُ  كموسيقى في أعشابِ ذاكرتنا؟ ما الطفولةُ التي ترفضُ أن تغادرَ إغماضاتنَا، قلقنا، أحلامنا؟ ما الطّفولة التي تستيقظُ هلعا، فتتألّقُ دمعا في نوباتِ التّجارب الصادمة، أو فرحا جارفا في معتركِ الانتصاراتِ المظفّرة؟ ما الطّفولة التي تأبى أن تُخْلَعَ كمعطف، أو تنطفئَ كنجمة، أو تتلاشى كضباب؟

ما الطفولةُ؟ إن لم تكن بِئْرا بقرارة سحيقة الظلمة والمجهول، محتشدة بالكنوز.

إنْ لَمْ تكن صندوق الباندورا الذي تتوارى في ودائعه ذخيرتنا السريّة، ففيه من الشّر بقدر ما فيه من الخير، وإلى معدنهِ الأصلِ تحتكمُ وجوهُ عُملاتنا المتحوّلة بحسب تصاريف الحياة ومتغيّرات الزمن.

إنْ لَمْ تكن غرفةَ تحميضِ  صُورنا الإنسانيّة...

يتشابك الحلم والخيال في كلّ مغامرة كتابة، حتى يصعب معرفة من ذا من ذاك، لأنّ التطابق دامغٌ، وما بين الكيمياءيْنِ حاجزٌ شفّافٌ أشبه بجناحِ يعسوب

وحدها الكتابة ( الفنّ عموما) الدليل إلى خرائط الطفولة المجهولة، المنسيّة أو المستحيلة. بالكتابة نتجاسر على هذا السفر الداخلي، كما لو نحفرُ بحثا عنّا فيما تراكم تحت الطّمرِ الهائل الذي يحول بيننا وبيننا. بالكتابة نمسكُ بخيط البرق الذي يضيء الضفّة الأخرى للعالم. بالكتابة نتوحّدُ بالطفولة، نتماهى معها من جديدٍ في طفرة حلمٍ شاهقة التموّج، نعثرُ على الطّفل المنسيّ الذي كُنّاهُ، نصافحهُ في الشّارع الخلفيّ لوجودنا وهو ينفلتُ منّا على درب شقاوتهِ، هاربا إلى مراتعِ طيشهِ الذهبيّ...

تلك هي الصّورةُ المُزدوجةُ على سبيلِ المجازِ:

الطّفولةُ غابةُ الكتابةِ السِّحْرية، والحلمُ نَهْرُهَا الرّقْرَاقُ، المُنْدلقُ في المجاهلِ بِمِلْءِ الأفعوانيّةِ.

font change