في الحادية والأربعين، وباستثناء ظهور بعض التجاعيد على وجهه، لن تظنّ أن جسده سوى جسد شاب في الثلاثين. علّمنا أفلاطون أن الحواس تخدع، وأنّ ماهيّة الأشياء تُكشف من خلال الحركة. فالقدرة على لعب كرة القدم لا تظهر من جمال الجسد وبروز العضلات، بقدر ما في القدرة على الحركة واستعادة الأنفاس. إذا كان اعتزال زلاتان إبراهيموفيتش إعلان نهاية، فهي نهاية لجدولة الوقت في التدريبات الجماعية، وانتظار المباريات، والالتزام بنظام صحي صارم، ومحاضرات تكتيكيّة واستراتيجية.
كان على زلاتان أن يُقصي نفسه بنفسه. إنها اللغة التي يحتاج إليها اللاعب والشاعر والفنان، لكي يُبرز داخله، بعيدا عن الحركة واللون والكلمة:"اعتدت أن أشعر بالرعب عندما يسألني الصحافيون عن مستقبلي، لكنني لم أعد أفعل الآن، فأنا مستعد". استخدامه لكلمة الرعب مناسب جدا له، اللاعب الذي بقي في الملاعب من هولندا إلى إيطاليا إلى اسبانيا إلى فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، لم يتوقّع يوما أن تناسبه مواجهة هذا القرار، أن يلتزم ببعده الجسدي، بقدرة عضلاته على استقلاب التعب والاستفادة من التمرين.
بدا جسد المقاتل ملائما له، إذ يحقق له الشعور بقدرته على حماية جسده، وعلى استعداده للمواجهة والانتصار على أفراد يلعبون لعبة تتعلق بالجري وركل الكرة دون أن يُلموا تماما مثله بالعلاقة الفردية العضلية القتالية العنفية
خارطة الجسد
ما إن يقترب الإنسان من الأربعين حتى تبدو خارطة الجسد في صراع لتبديل أولويّاتها، لكن الحس الذهني لن يطاوع الجسد، إنها عودة في كل مرة للسؤال المركزي عن قدرة الجسد على الخلود، والذهن على التأمل. شرط المستطيل والمربع، وكروية الكرة، والإعلام الهائل، والقدرة المحدودة على الكلام.. لم ترغم زلاتان على الالتزام بتصرفات جماعية. شيء ما فيه بدا منشقّا في كل مرة، والكاميرا تتابعه لأن شيئا خفيا غير كروي وغير رياضي سيظهر دوما: أن يلكم لاعبا بخفّة، أو أن ينظر شذرا وبتعال للاعب ما، أو أن يشتم لاعبا، أو يعاقب لاعبا معه في الفريق.
لم يكن زلاتان لاعب كرة قدم عاديا، أي أن الشرط الجماعي لكرة القدم لم يكفه، كان تعميم ذاته عائقا دون شك في التواجد ضمن لعبةٍ جماعية، وهو شرط قيام اللعبة بالأصل-ما يسمّيه علماء النفس (سياج اللعب) أي شروطها- فانحاز جسده للاتّزان مع لا وعيه النرجسي، ورغبته في التفرّد، والخروج من الظهور الجماعي. التواجد بنشاط بين أفراد مثله لإكمال منظومة اللعب، أشعره بأن فضاء عموميا يقيّد جسده ويخلطه بأجساد أخرى، فمضى لتعلّم التايكوندو وأجادها إلى حدّ كبير، وحصل على حزام أسود شرفي في مالمو، فبدا جسد المقاتل ملائما له، إذ يحقق له الشعور بقدرته على حماية جسده، وعلى استعداده للمواجهة والانتصار على أفراد يلعبون لعبة تتعلق بالجري وركل الكرة دون أن يُلموا تماما مثله بالعلاقة الفردية العضلية القتالية العنفية. سيطرته على جسده الفردي والتحكم فيه، ورياضة جسده الخاصة البعيدة عن الجماعية أراحتا لاوعيه النرجسي ليحقّق فرادته وثقته بقدرته على إيذاء الآخر، متّسقا مع هوسه في المظهر النرجسي والمختلف. ثم أن رياضته الخاصة الفردية هي عودة للفردي ضد الما فوق فردي (over individual) الذي تفرضه كرة القدم. بعض المقاطع التي تفضح هذا مثيرة للكثيرين، من باب الاستدماج بالشخصية المتفرّدة والنرجسية والقوية، وأحيانا الجانب المسرحي للضحك، وفانتازيا الصراع بين الناس عبر الكاميرا.
فالأربعيني منذ سنوات ليست بعيدة كان يركل دون داعٍ، ويحاول اختلاق مشكلة، واستخدام يديه في دفع الخصوم وكأنهم حشرات. ما يبدو سيئا في سياج اللعب أحيانا الهوامش، هوامش توقف الكرة، وصراعات الاحتدام العنفي والشخصي بين اللاعبين، والذي يبدو للجمهور بُعدا جماليا. فمن ينسى لكمات اللاعبين لبعضهم وصراعاتهم النفسية والشخصية داخل الملعب؟
موازنة العالم
صدر لزلاتان كتاب، فيه كل شيء عنه، شيء ما من الكتاب قد يبدو خادعا، النشأة من عائلة مهاجرة وفقيرة، أبوان من ثقافة مختلفة، وتميّز دراسي قد تخلّى عنه من أجل نضج الجسد ورياضته، ولحاق الكرة وركلها؛ إنها موازنة العالم الحديث بين الجسد والذهن، وقد اختار فيها زلاتان الجسد. قد توحي البداية المبكرة والفقيرة والمتعبة لشخصية كافحت من أجل الوصول إلى هذه النزعة من الذاتية مضللا. لزلاتان نرجسية عالية، واضحة من تصريحاته التي تحمل استهزاء بالجميع، أو حتى بظهور جسده في الملعب، حتى إنه يظهر في عشرات مقاطع الفيديو وهو يلكم أو يضرب مازحا، هذه طبيعة مسيطرة ترتكز على القوة، منشؤها قد لا يتّسق مع كتاب السيرة، إلا أن شيئا خفيا يظهر بشكل جلي. يُشير عالم النفس جاك لاكان (1901-1981)، وهو يشرح الأنا المثالية عند فرويد إلى المرحلة المتطورة من النرجسية التقليدية، والتي تنمو في الصغر حسب لاكان في مرحلة المرآة أو مرحلة المخيلة، وحسب فرويد ولاكان هي تُضمر ثم تظهر بشكل مفاجئ، لأنها تقبع داخل مرحلة الطفولة.
فسياق الكتاب لا يتقاطع مع ولادة شخصية نرجسية، إلا أن معالمها المخيالية تظهر في كل تصرفات زلاتان لاحقا، وخاصة في الحالة التي يعاني منها "استجابة العراك" (reaction combat)، والتي ترتبط بسلوك حيوي ومستعد للعراك دوما، فانعكاس الطفولة الصعبة كان في الاستعداد للعدوانية، مع كفّ أي شعور بالذنب. فزلاتان لا يعتذر من الذين اعتدى عليهم، بل يضعهم في صفات أدنى منه. وحينما يقارن بالنجوم يضع نفسه في المقدمة، أما مقارنته في الأندية فيجعل نفسه أكبر منها ومن مدن الأندية بحدّ ذاتها.
للجسد قصة عليه أن يخطها مرحليا، لقد صغر عمر المدربين وعمر اللاعبين المؤهلين للعب، وازدادت الإمكانية قليلا ليكون اللاعب متاحا في عمر يتجاوز الخامسة والثلاثين. كان "إيبرا" من أشهر من لعبوا وقد تجاوزوا الخامسة والثلاثين، درجات الإشباع لا تنتهي عند اللاعب دون قناعة وشعور بالاكتفاء، هي مرحلة لا بد من فهمها بوصفها رياضة وقدرة. فيليب لام وتشابي ألونسو وغيرهما، توقفوا في عمر الخامسة والثلاثين، الأسباب قد تكون من قناعة تامة، أو من عدم تجاوز التعب الحقيقي الذي يتراكم في الجسد. درجات التشبع محورية في طبيعة الشخصية، ورغم منشأ اللعب بوصفه ظاهرة إنسانية مستقلة حسب فلسفة فردريك شيللر(1759-1805)، إلا أن اللعب ضمن سياج اللعبة، وضمن الميديا وتعلق الجماهير واستدماج شعورها وكياناتها بالأبطال، أصبح يشكّل هواجس كثيرة لدى اللاعب، الشهرة والحب والانفعال، وبلاغات قولية تشي بالانتماء والبطولة. طبيعة كرة القدم وأي لعبة تلاحقها الكاميرا أصبحت تُلخّص سمات العالم الشعورية والانفعالية.
الرعب الذي أصاب زلاتان هو الرضوخ لصوت الجسد وقدراته، ودون أن يشعر تماما بأنه يملك من العظمة سوى ما يبدو مُجسّدا بعشرات الألقاب من الدوريات المحلية التي لعب فيها
تشبّع
يبدو الاعتزال الجسدي أمرا حتميا، وقد لا يصل اللاعب إلى مرحلة التشبع، أي تحديدا الملل من ممارسة شيء، أو عدم الرغبة في تكرار الممارسة نفسها، لكن للجسد كلمته العليا على الشعور النفسي، فيبدو الاعتزال أمرا منوطا بالقدرة والتحقق. الرعب الذي أصاب زلاتان هو الرضوخ لصوت الجسد وقدراته، ودون أن يشعر تماما بأنه يملك من العظمة سوى ما يبدو مُجسّدا بعشرات الألقاب من الدوريات المحلية التي لعب فيها، ودون لقب قاري كبير لبلاده، زلاتان لم يحصل على بطولة كأس العالم، أو حتى أمم أوروبا، ولم يكن له باعٌ أوروبي كبير سوى في بطولة واحدة مع مانشستر يونايتد. ومنذ خلافه مع غوارديولا، أحد أكثر المدربين عملا على المستوى الذهني والتقني، لم يعاقب زلاتان نفسه على فشله الذهني معه، بل تملّص من أي عملية عقابية للذات، نحو الحاجة القصوى لتثبيت الأنا وتضخيمها، خاصة بجعل جسده الفردي منوطا بالتعويض، وقدرته الشخصية التي اكتسبها بخبرة مقاتل وعلو كعبه الفردي، حولت سلبية إنجازاته إلى ظاهرة صوتية ينتظرها الجميع، إما للاستماع إلى سخريته، أو التفاصيل التي يتحدث فيها صانعا منها حكاية شفوية قصصية بطريقة جذابة. هذا لا يعني أن زلاتان لم يكن بطلا، في لحظات كثيرة كانت أهدافه وأدواره داخل الفرق جذابة، لكن مركزية البطل داخل سياج اللعبة لم تكن عظيمة الشأن بالطريقة نفسها التي يسوق فيها ذاته النرجسية أو تصرفاته اللفظية عن نفسه.
زلاتان بالنسبة سيظل أحد أهم الأساطير التي مارست كرة القدم في تاريخها
وبعيداً عن العاطفة .. فإن عودة الميلان للمنصات العام الماضي كان له دور كبير فيها
مهما كان جبروتك .. ومهما كانت شخصيتك
إعتزال كرة القدم سيكون هو أكثر لحظة محزنة في حياتك !!
يطرح اعتزال زلاتان سؤالا عن درجات التشبع التي من الممكن للإنسان أن يصل إليها وهو يمارس مهنته أو هوايته، أو درجات الإحساس بالاكتفاء أو التعب، يكون السؤال محوريا حينما يوضع في مقاربات ثقافية وإنسانية عموما، متى يعتزل الإنسان عموما؟ ومتى يبدو التشبع واجبا؟ وهل يصل الفنانون والرياضيون والكتاب والمثقفون إلى التشبع؟
قطعا هناك اختلاف بين قدرة الجسد، وقدرة الذهن، الفارق بين العمل المرتبط بالتأمل والعمل المرتبط بالحركة، لكن التشبع قد يصيب كليهما رغم اختلاف الأنماط. شيء من هذا يمكن ملاحظته في الثقافة الغربية، توقف روائي عن الكتابة، أو وضع حدّ لنوع معين من الكتابة، كاعتزال الكتابة الروائية، والاكتفاء بالكتابة والتدريس، أو التوقف عن إصدار دواوين الشعر، والاتجاه إلى جانب سردي أو روائي، وكثيرا ما يكون هذا متاحا ضمن ما يُسمى الانتقال السيكولوجي، أي الحركة من نقطة في حيز الحياة إلى نقطة أخرى، واختيار أفعال بديلة، أو السعي لأهداف جديدة، خلافا للاعبي الرياضة يستطيع أي كاتب محافظ على إدراكاته الأساسية، وتوازنه البيولوجي بالحد الأدنى أن يكتب دائما. أما عربيا فدرجات التشبع من الصعب الحصول عليها لدى الكُتاب، ويبدو الاعتراف بالتعب أمرا مستحيلا، فلم يتوقف أدونيس لحوالي الخمسين سنة عن إصدار الدواوين، رغم ندرة بيعها فلا تخلو مكتبة من عشرات الدواوين لأدونيس، وكل تجليات أدونيس الحالية عبر الميديا تحتفي بآرائه وذكرياته، ولا تقترب البتة من تقييمات شعرية تخصّه، أو مراجعات نقدية لآخر عشرة دواوين أصدرها مثلا. أي أن الاحتفاء فيه ماضوي، ولا يملك في حاضره أي معايرة لإنتاجه.
هناك إشباعٌ خفي وضمني، وقد يكون سببه جسديا أحيانا، تعب الجسد، وملله من الصبر والتأمل لإنتاج معرفي أو سردي، كالماغوط وتوقفه في سنينه الأخيرة عن الكتابة، ومثالنا الأفضل للتشبع والاكتفاء على ما يبدو هو زكريا تامر، والذي لم يصدر كتابا منذ ما يقارب العشرين عاما بعد تجربة غنية لكن من دون أن يُعلن اعتزاله مثلا، رغم قابلية نصوصه للتأويل في كل زمن.
اعتزال الكتابة
كثيرا ما يكون اعتزال الكتابة قلقا يخص الشعراء لا الروائيين، حيث جدلية الشعر وارتباطه بالمقدس، جراء غرق الذات فيه وانعزالها عنه في وقت واحد، مما يجعل التوقف عن الشعر متاحا بشكل أكبر لافتقاد الخطف واللحظة وأيضا انطلاق التجربة الروائية أو الشعرية، أو الكتابية عموما من منطلق أخلاقي، أي أن يكون شكل السرد يحمل قصدا أخلاقيا، فحسب بول ريكور (1913-2015) لكل سرد واجب أخلاقي، ضرورةٌ أخلاقية ما. هنا قد يختلف المنشأ القصدي للكاتب، أهو سرد الذاكرة أم الانجذاب لما يبدو متحركا ومتغيرا اجتماعيا؟ الهدف من الكتابة هو خفي وضمني وإشكالي، جانبه الإبداعي هو الأكثر أهمية دون شك، لكن ما هو أكثر وضوحا في اعتزال الفنان أو الرياضي بلا شك استجابة الجمهور. ينخرط لاعب كرة القدم بأعداد هائلة من الجماهير المختلفة الأعمار، من الأطفال المحملين على الأيدي إلى العجائز وأصحاب العُكازات، الأصوات والهتافات والأيدي المرفوعة والقفزات الهستيرية، ارتباك الجسد الفعلي في الاقتراب من اللاعب داخل الملعب يُضخّم من أناه، هذا ما لم نتحدث عن مليارات المشاهدين المتفاعلين عبر منصات التواصل الاجتماعي، قد يكتب أي لاعب اسمه على منصة غوغل لتربطه بآلاف المنصات المختلفة التي تحاكمه وتقيمه وتُعجب فيه بل تعامله وكأنه معبود. هذا كله خلافا للكاتب الذي يملك مقدارا تشبّعيا طفيفا بلا شك، فديوان شعر واحد ستتداوله الصحف بالذكر، وقد يكتب أحدٌ ما تحليلا أدبيا يُسعد الكاتب ولو قليلا. فتبدو العلاقة مع الجمهور مفقودة ودون أثر، سقوط الكتاب من التداول اليومي والمعرفي يجعل الكاتب في حالة أكثر غربة عن شعوره بالتشبع. من الصعب أن تكون الكتابة لبعد ذاتي فقط، لا يوجد كاتب يكتب من أجل نفسه، فلكي يكتب الإنسان عليه أن يدمج بالضرورة منتوجه وهويته مع الآخرين، مثل أي لاعب رياضي آخر، حينما ينجو من ذاتيته وقدرته الخاصة، نحو تجلياتها أمام جمهور، وأمام ما يبدو أكثر قسوة ومباشرة، الندّية وإثبات الوجود.
وبين زلاتان وأيّ شاعر أو كاتب فارق جوهري إذن، الحصول على درجات تشبّع والاعتراف بالتعب وضرورة التوقف، وتشبعات وإنجازات مختلفة أكّدتها الجماهير والكثير من الألقاب، خلافا لمئات النصوص التي ستُكتب والتي لن تملك أثرا واضحا، ولا تحقق لدى الكاتب إشباعا متناهيا.
كثيرا ما يكون اعتزال الكتابة قلقا يخص الشعراء لا الروائيين، حيث جدلية الشعر وارتباطه بالمقدس، جراء غرق الذات فيه وانعزالها عنه في وقت واحد، مما يجعل التوقف عن الشعر متاحا بشكل أكبر لافتقاد الخطف واللحظة وأيضا انطلاق التجربة الروائية أو الشعرية
بين جمهورين
في وداعية إبراهيموفيتش كان الجمهور في الملعب يحيّيه، لقد رأى التضامن معه وتفاعل فيه، ولم يوفّر لحظة عنفية ليسخر من جمهور فريقه المنافس الذي يطلق الصافرات له. على العكس من ذلك، لن يملك أي كاتب بسهولة شعورا بالانتماء يصله من جماهيره، خاصة في زمن انحلال الهوية وتنوعاتها، أما جمهور الفرق وجمهور اللاعب في حد ذاته فيشكل فارقا دوما، من هنا يشارك الجميع في الحزن على اعتزال لاعب، أو التعبير عن التمنيات له دوما بنجاحٍ ما. لاعبو البرازيل العظماء في بداية الألفية الحالية تمنوا انتصار الأرجنتين في الكأس من أجل ميسي، قيمة الفرد المحاكاتي تلعب دورا في محبّة اللاعب لا الفريق أو المنتخب بحد ذاته. كل ما يخص الثقافة والكتابة يبدو منسحبا من وضوح درجة الجماهيرية إلا في حالات ضمنية قلّما يشعر فيها الكاتب في يومياتهِ، قد يكون "فيسبوك" والصحافة اليومية، نوعية يحاول فيها الكاتب التفاعل من خلال اليوميات، وذلك لإدخال نفسه في يوميات متابعيه أو فيما يضمرونه، وتوسيع الانجذاب الضمني نحوه. اعتزال "إيبرا" يبدو إشكاليا لاندراجه باعتزال شخص لم تكفه كرة القدم ليكون في سياجها، بل أن يظهر أيضا عبر التلفاز كمتحدّث وبليغ ومتحدٍ. خاصة أن الطبيعة النرجسية هي صفة من صفات قد يملكها كاتب أو مثقف أو شاعر، شيء من نجوميته الضمنية ملهمة حتّى للكتّاب والممثلين والمثقفين وكل العاملين في مجال الفنون.
ساندرو تونالي:"إكتشفنا نبأ إعتزال زلاتان يوم أمس.التحضير ذهنيّاً لهذا الحدث ليس سهلاً قبل المباراة.
"سيبقى هذا الحدث عالقاً في ذهني فقد شاهدت بكاء الكثير.سأعاود النظر في اللقطات لأنّها تلمس القلب.
قد نتذكر هنا آخر مقابلات صباح فخري (1933-2021) والتي قال فيها إنه لن يأتي بعده ومثله، هذا الاضطراب النرجسي يشبه مقولات زلاتان عن نفسه، من ناحية التقوّل الأنوي غير المتأمل أو المفكر فيه، والذي يبدو اعتباطيا أكثر من كونه مُحللا أو مدروسا ضمن واقع زمني وفكري ثقافي. بل إن وريثه الوحيد سيكون ابنه، وقبل وفاته بسنين دافع ابن صباح فخري عن وجود أبيه في حفلات صاخبة وهو يهتز ويرقص دون أن يبدو على صباح فخري أي سيطرة جسدية على نفسه بأن "صباح فخري لايريد الجلوس كمريض في المنزل، هذه الأجواء يحبها ولو كان على كرسي متحرك"، علما ان صباح فخري لم يأت بجديد فنيا او موسيقيا بالتحديد منذ السبعينيات، وقبل وفاته بعشر سنين طالب المئات صباح فخري بالاعتزال لخفوت صوته وصحته دون آذان صاغية من أحد. إلا أن درجات التشبع في طريقة محاكاة المؤدّي قد تكون مختلفة أيضا ومتنوعة. درجة التقول الخاصة للكاتب تختلف تماما عن الفنان المؤدي، فبالتأكيد لا يمكن وضع تصريحات جورج وسوف الساخرة إلا في المستوى نفسه من الأنا المتضخمة ومن هوس الجماهير أحيانا بالأبطال والنجوم.
سياج اللعبة
يمكن فصل طرق الاعتزال والتشبع بين الكتاب والشعراء، ومؤدّين كرويين وفنانين موسيقيين ومغنين، درجات التشبع الجماهيري هي التي تكون مقياسا، والجسد أيضا، فجسد صباح الذي انهار قبل موته توافق مع انهيار قدراته الصوتية، وحتى المقابلة الأخيرة للماغوط (1934-2006) بدا جسده منهارا تماما. للجسد لغة يكتشفها لاعب كرة القدم قبل الكاتب والفنان، سياج اللعبة يجعله يفهم هذا. أرسطو يُلمّح إلى الألعاب بوصفها خيرا جماليا ما دامت في مجال الرياضيات وألعاب الذهن، حتى القرن السادس عشر بدت الرياضة الجسدية هما بدنيا وفلسفة حقيقية. لكن في الربع الأول من ألفيّتنا يغدو الاعتزال خيارا إنسانيا بحتا لأنواع كثيرة من التشبعات وأيضا التعب، سحر الميديا يسبغ على اعتزال البطل الكروي قيمة ومعنى أكبر، خاصة أن "يوتيوب" يشكل ذاكرة القرن الحديث، سنعيد لمرات كثيرة هدف زلاتان وهو يضع المرمى خلفه، وقد نقتبس للماغوط نصا ونضعه على صفحتنا، ونستمع لتشبعنا الخاص بصوت صباح فخري في الثمانينات، لكن ذاكرة المثقف والكاتب والشاعر عليها أن تحتكّ بجمهور ضمني، قد يضعف الذات وهي تحاول الخروج نحو الآخرين ومحاولة إيصال الهوية الداخلية لهم. الفارق غير الجماهيري أيضا أن زج اللاعبين وكرة القدم، في قضايا أخلاقية يبدو غير واضح لحد الآن مدى جدواه أمام المتابع الرياضي، مازال المنتخب الألماني يعاني من ضغط ساسته على رموزه التي يحملها أو التي يُريد إظهارها. كلمة الرعب التي استخدمها زلاتان حكيمة، لأنها دلالة على ضعف شخصية نرجسية أمام قدر سياج اللعبة ومتطلباتها، أما الكاتب تحديدا فسيظل في زمنٍ أقل منه شهرة وتفاعلا، وسيكون قلق اعتزاله نتيجة تأملٍ طويل وقلق. ونتاج وحدة وعزلة وصل إليها الماغوط مثلا. نزعة التجمهر والشهرة ستكون لدى الكاتب ولاعب الكرة، لكن خيار الإشباع سيكون للفرد دور فيه، ومن ثم الانتقال السيكولوجي للاعب كرة القدم سيكون أسهل، ماذا سيفعل الكاتب والذي يملك جسدا متقاعدا في الأصل عن الحركة الشاقة إن تشبع أو توقف مبكرا، ماذا سيغير في حياته من أجل إنتاج الحياة ذاتا وعملا؟ خلافا لزلاتان وأي لاعب آخر قد يذهب للعمل في الميديا مستغلا جماهيريته التي تستدمج نفسها فيه، أو يصبح مدربا أو يحصل على عمل رياضي، الجسد في سياج الكرة سيملك تحولا مفتوحا بخلاف الكاتب. هذه مأساة طويلة أبطالها الجماهير والعالم نفسه وهو يتبع سحر الرياضات وجنونها.
اعتزال جيل كروي يترافق اليوم مع نزعة عالمية لمتابعة الكرة والغرق فيها، دول بأكملها تشتري أندية وتدعمها، وصراع البشر فيها يبدو مسرحا مختصرا للحياة كلها، في الوقت ذاته قد يكون المثقف والكاتب نفسه حاضرا في كل لحظة اعتزال أو إشباع سيختارها لاعب كرة قدم، لكي يسأل نفسه عن عمله الأخير، وعن تعبه، وعن جمهور مفترض بعيد ومنعزل عن الكاتب بمساحات شاسعة، هل سيكون لكاتبٍ ما معنى ما، يفرضه نرجسيامثل لاعب كرة قدم، هل يملك المساحة أصلا. لن يكون المثقف حاضرا سوى بما يُنتجه وأن ينتظر المردود وهو يبدو قاصرا.