أعتقد أنك تلمح في جوابك، بشكل أو بآخر، إلى فكرة الترابط بين مفهومَي الخلاص والفداء التي طرحتها في كتابك "فلسفة الخلاص: سُبل التحرر من نظام التدمير الذاتي". هل أنا مُخطئ؟
أنت مُحق. تشير فكرةُ الفداء إلى الانتصار على الشر الذي هو هنا الذنب. وعلى هذا، هي تشير إلى الانتصار على الشر الذاتي. إنها، والحال هذه، النواة الأساسية لفكرة الخلاص نفسها، لأن الخلاص ليس حدثا سحريا ختاميا يحدث من دون أي مشاركة من البشر. إن تصور الخلاص على أنه لفتة من الله القدير في نهاية الزمان، كان له أكبر الأثر في نزع حس المسؤولية من البشر. لذلك يبدو لي الخلاص، حتى لو فُهِمَ بالتحديد على أنه خلاص أُخروي، شكلا غامضا ولكن واقعيا من العلاقة. الله يخلص ويتعهد برعايته علاقته بكل كائن بشري ما دمنا متمسكين من خلال تلك العلاقة بمحبته. نحن لسنا طرفا خاملا في عملية الخلاص، بل نحن إلى حد ما مشاركون فيها. والخلاص يقتضي منا التزام التحرر. لذلك فإن الفداء، بما هو انقطاع من جانبنا عن أي تواطؤ مع الشر، ضروري لتكون مشاركتنا في الخلاص، بالمعنى الجذري والشامل للمصطلح، كاملة.
طبعا تقتضي هذه الرؤية إيمانا بالأصل الإلهي للكرامة البشرية. فبقدر ما نحن عرضة للتحول عن إنسانيتنا، لتشويه أنفسنا بالتواطؤ مع الشر، يمكننا دائما فداء أنفسنا وإظهار شرارة من أصلنا الإلهي. والخلاصة أنه لا معنى أبدا لفصل الفداء عن رحلة الخلاص.
في كتابك هذا، تفصل خمسة معان أساسية (ليست، في أي حال من الأحوال، مجازية)، لمصطلح "الخلاص". هلا تشرحها لنا بإيجاز وتوضح إن كان مفهوم "السلام الدائم"، مثل مفهوم "الخلاص الأُخروي"، نتيجة لاجتماع وتضافر المعاني الأربعة الأولى؟
لا يتحدث عن الخلاص عادة إلا أولئك الذين يتخيلونه حلا لكل شيء بعد الموت. لكن الخلاص، في هذا المعنى، يظل مفتقرا إلى الارتباط بالتجربة اليومية وبالحالة البشرية الطبيعية. وعندما يفتقر المعنى، أي معنى، إلى نظير له في التجربة، يسقط ويصبح بلا أية قيمة. لذلك من المهم أن نسأل أنفسنا إن كان لدينا، في هذه الضفة الماثلة والمحسوسة من الحياة، تجارب تضمنت معنى الخلاص. عند التدقيق، نجد أن للخلاص معانيَ كثيرة وأن كل هذه المعاني تقريبا يمكن اختباره في الحياة. أولها وأدناها منزلة "الخلاص المادي": كما حين نفر من خطر مميت لننجو بأرواحنا. يعلوه منزلة "الخلاص الداخلي"، وهو ما يحدث حين يكون المرء في معترَك حياة تعاكسه فيها الأقدار، حياة يمكن أن تفسده روحيا أو تجرده من إنسانيته، فينجح في البقاء كاملَ الضمير والروح والقلب: يظل على حقيقته الأولى، مختبرا بذلك الخلاصَ الداخلي.
على المرء أيضا أن يفكر في قيمة وجوده وهدفه. فإن عاش منغمسا في الشر، مأخوذا دائما بمصالحه الخاصة ولم يترك أي إرث من الخير للآخرين، أمكن القول إن وجوده كان عبثا. ولكن حين تكون للمرء أياد بيض على الآخرين، فإن قيمة وجوده، حتى لو مات، تبلغ الخلاص ولا يمكن حتى للموت أن يمحوها. من عاش على هذا النحو لم يعش حياته عبثا ولم يكن وجوده سدى. هذا ما أسمّيه بـ"الخلاص الوجودي".
من ناحية أخرى، يحدث كل يوم أن نمدّ يدنا إلى شخص عله يخلصنا من موقف ثقيل الوطأة علينا، أو أن يمدّ الآخر يده نحونا، كما نرى اليوم في العلاقة بين المهاجرين وأولئك الذين يستضيفونهم. نحن هنا أمام تجربة "الخلاص الأخلاقي"، وهو خلاص يتحدانا دائما ويختبر مسؤوليتنا. اليوم، البشرية جمعاء على شفير الدمار، من جهة بسبب دمار الأنظمة الطبيعية ومن جهة بسبب نظام الحرب العالمي الوحشي الذي يُسمى "جيوبوليتيكا". مواجهة هذا الخطر وشق طريق جديد للبشرية هو ما أسمّيه بـ"الخلاص التاريخي-السياسي".
معاني الخلاص الأربعة هذه (المادي والداخلي والوجودي والتاريخي-السياسي) تفتح لنا الطريق نحو "الخلاص الأُخروي" وتسمح لنا ببلوغه والاتحاد به. في هذه المرحلة نستطيع أن نختبر في العالم الواقعي ما تُخُيِّل على أنه "سلام دائم".
مجتمع السوق
هل يمكننا اليوم، في مجتمع مُعَولَم فرض فيه النظامُ الاقتصادي هيمنته على القيم الروحية للإنسان وأنتجت مصطلحات "السوق" نظرة إلى الدين على أنه سلعة تُنتَج وتُستهلَك، الحديث عن الإيمان باعتباره طريقا ممكنا نحو خلاص الإنسان؟
لطالما كانت علاقة الإنسان بالله الأزلي المطلَق متناقضة. فمن ناحية شُوهت هذه العلاقة بسبب تخيلنا الألوهية وفقا لميولنا وتصوراتنا، متصورين إياها قوة خارقة للطبيعة تهيمن على كل شيء، وراسمين للإله صورة على أنه إله سلطة فحسب. مفهوم ما لبث الرجل أن استخدمه لتأسيس نظام سلطته البطريركي مُسبِغا عليه طابع القداسة. من الواضح، والحال هذه، أن الدين كان دائما مقرونا بالقوى السياسية والاقتصادية والعكس صحيح. الإله الحي والحقيقي لا علاقة له بدين أيديولوجي واستبدادي كهذا. واليوم، الأثر الثقافي والوجودي لذلك، في مجتمع اختُزِل إلى مجرد سوق، أعمق مما نظن بكثير. أثر لا يرقى حتى إلى درجة عبادة المال، لأن العقلية التي أنتجها عقلية عدمية لا تؤمن بأي ذات أو بأي شيء، بل تتصرف بشكل آلي، بلا أي وعي تقريبا. إن عقلية المجتمع المعولَم والمتأورِب عقلية عدمية وليست دينية. على الضفة الأخرى، لم تغب يوما تجربة الإيمان الأصيل، تلك التي يعرف الرجال والنساء من خلالها، وبغض النظر عن انتمائهم الديني التقليدي، كيف يعيشون محبين للآخرين ويكرسون أنفسهم للصالح العام ويتبنون اللاعنف منهجا وأسلوبا في الحياة. قدم المهاتما غاندي أوضح مثل على معنى الإيمان الحقيقي ذائبا في الله بما هو التجسيد لحقيقة الحب. كل أولئك الذين يذوبون في الله بهذه الطريقة الصادقة والمُحِبة والسخية يساعدون بالفعل في تخليص العالم.