بعد مضيّ ما يقرب من تسعة أشهر من التخطيط، تفيد التقارير الآن بأن أوكرانيا بدأت أخيرا شنّ هجومها العسكري المضاد لتحرير أراضيها التي احتلتها القوات الروسية، فيما يؤشّر في واقع الحال إلى أن الصراع قد وصل الآن إلى منعطف حرج.
وفي حين تتباين التقارير الواردة من ساحة المعركة عن مدى الهجوم الأوكراني الذي طال انتظاره لتحرير الأراضي في شرق أوكرانيا، فالأكيد أن ثمة زيادة ملحوظة في النشاط العسكري الأوكراني، حيث حقق الأوكرانيون نتائج متفاوتة.
لقد اعترف الروس أنفسهم بالمكاسب التي حققتها أوكرانيا في مدينة باخموت، شرقي البلاد. لكن وزارة الدفاع الروسية زعمت أيضا أنها صدت هجوماً أوكرانياً كبيراً في منطقة دونيتسك الواقعة في الجنوب، يوم الأحد الماضي، مما أسفر، حسب زعمهم، عن "مئات" من الضحايا في صفوف القوات الموالية لكييف.
وقال المسؤولون الروس إن الهجوم الأوكراني شمل ست كتائب ميكانيكية وكتيبتي دبابات، وأنه أسفر عن خسارة 250 جندياً أوكرانياً وتدمير 16 دبابة وعربات قتال للمُشاة، و21 عربة قتالية مدرعة.
ووفق بيان لوزارة الدفاع الروسية، فقد "كان هدف العدو اختراق دفاعاتنا فيما يرونه أكثر قطاعات جبهتنا ضعفا".
وفي الوقت الذي يسعى فيه الجانبان إلى امتلاك ميزة الحرب الدعائية، من الطبيعي أن يبالغ الروس عمدا في تضخيم الخسائر الأوكرانية لإلحاق الضرر بالمعنويات في صفوف القوات الأوكرانية، بينما يقلل الأوكرانيون، من جانبهم، من أهمية المزاعم بأن الهجوم قد بدأ بالفعل.
ومع ذلك، جعل الارتفاع الأخير في النشاط العسكري وفرة من المحللين العسكريين البارزين يستنتجون أنّ الهجوم الأوكراني الذي طال انتظاره لاستعادة الأراضي التي تحتلها روسيا قد بدأ بالفعل وهو الآن على قدم وساق، وهو هجومٌ قد يقرر في نهاية المطاف مآلَ الحرب.
من الطبيعي أن يبالغ الروس عمدا في تضخيم الخسائر الأوكرانية لإلحاق الضرر بالمعنويات في صفوف القوات الأوكرانية، بينما يقلل الأوكرانيون، من جانبهم، من أهمية المزاعم بأن الهجوم قد بدأ بالفعل
وقد جرت الاستعدادات للهجوم العسكري على امتداد فصلي الشتاء والربيع، إذ سعى القادة الأوكرانيون إلى دمج الأسلحة الغربية المتطورة التي تشمل دبابات قتال مع الصواريخ بعيدة المدى في وحداتهم القتالية. وشُكِّل ما مجموعه تسعة ألوية قتالية أوكرانية جديدة، الأمرُ الذي أمّن لكييف قوة قتالية جديدة قوامها 50 ألف جندي لدعم جهودها الجديدة الرامية لهزيمة روسيا في أعقاب الغزو العامَ الماضي.
لا شك في أن الوحدات القتالية الأوكرانية الجديدة ستساعد في دعم المجهود الحربي للبلاد، ولكن ما زال كثير من الأسئلة حول مدى فعاليتها قائما، ولا سيما أن بعض التشكيلات الجديدة تتكون من قوات ذات خبرة قتالية ضعيفة، إن وُجدت أساسا. بالإضافة إلى ذلك، يُطلب من هذه التشكيلات استخدام معدات غربية مختلفة تماما عن أسلحة الحقبة السوفياتية التي كان الجيش الأوكراني يعتمد عليها تقليديا.
العامل الرئيس الآخر الذي يمكن أن يلعب دورا مؤثرا في قدرة الأوكرانيين على تحقيق مكاسب قوية في ساحة المعركة هو افتقارهم للغطاء الجوي، وهو عنصر يشكل حجر الرحى لأي هجوم بري ناجح.
وعلى الرغم من كون أداء القوات الجوية الأوكرانية خلال العام الماضي أداء بطوليا، فإنها لا تزال غير قادرة على مضاهاة قوات خصمها الروسي الأضخم والأخطر، مما يجعل الأوكرانيين عرضة للهجوم من الجو. لذلك تمسّ الحاجة لدى أوكرانيا إلى تحسين دفاعاتها الجوية وهو ما يعد السبب الذي حَمَل كييف على الضغط بشدة لتزويدها بطائرات حربية غربية كطائرات "إف-16" الأميركية.
وعلى الرغم من هذه الصعوبات، ما زال الأوكرانيون مصممين على شن الهجوم، وقد قامت وحداتهم العسكرية بالفعل بشنّ سلسلة من الهجمات ضدّ المواقع الروسية في الأيام الأخيرة، وإن بدرجات متفاوتة من النجاح.
ولعل السيطرة الأوكرانية على أراض حول باخموت واحدة من أهم تحركات الأوكرانيين، وقد وجّهت دون شك ضربة قاصمة للمرتزقة الذين يقاتلون في صفوف ميليشيا مجموعة فاغنر الروسية التي ادعت الشهر الماضي فقط، أنها سيطرت على المدينة بعد شهور من القتال الضاري.
فبعد أن تمكنت القوات الأوكرانية من استعادة قرية بيرخيفكا، والتي تقع على بُعد أقل من ميلين إلى الشمال الغربي من باخموت، وجه يفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة فاغنر، انتقادا عنيفا للجيش الروسي، واصفا القوات الروسية بأنها في منزلة "العار" لتخليها عن مواقعها.
وفي تسجيل نشرته خدمته الصحافية، أعلن بريغوجين: "الآن فُقد جزء من بلدة بيرخيفكا، بينما تهرب القوات بهدوء. يا للعار!".
العامل الرئيس الآخر الذي يمكن أن يلعب دورا مؤثرا في قدرة الأوكرانيين على تحقيق مكاسب قوية في ساحة المعركة هو افتقارهم للغطاء الجوي، وهو عنصر يشكل حجر الرحى لأي هجوم بري ناجح
والحق أن التوتر بين بريغوجين والمؤسسة العسكرية الروسية تصاعد في الأشهر الأخيرة، إذ انتقد رئيس فاغنر على نحو لا هوادة فيه الجنرالات الروس لعدم بذلهم المزيد من الجهد لدعم هجوم مجموعات فاغنر من أجل الاستيلاء على باخموت.
وبسبب حساسية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للانتقاد الذي يقول إن "عمليته العسكرية الخاصة" في أوكرانيا لا تحقق أهدافها، فإننا نرى الكرملين حريصا كلّ الحرص على تحقيق بعض النجاحات في ميدان المعركة.
ولعل هذا يوضح على نحو جيّد التقارير التي تفيد بأن روسيا كانت مسؤولة عن الهجوم المثير للجدل على سد كاخوفكا (من الحقبة السوفياتية) في جنوب أوكرانيا، والذي أطلق العنان لطوفان من المياه عبر منطقة الحرب حول مدينة خيرسون ذات الأهمية الاستراتيجية، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها بوابة شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا.
إنّ إغراق المنطقة المحيطة بخيرسون سيجعل من الصعب للغاية على الأوكرانيين تحقيق أحد أهدافهم الحربية الرئيسة المتمثلة في استعادة شبه جزيرة القرم، وبالتالي تزويد الروس بميزة كبيرة، وهم يسعون إلى إبقاء قبضتهم على شبه الجزيرة التي هي موطن الأسطول الروسي في البحر الأسود.
ومن المؤكد أن منع أوكرانيا من تحقيق أهدافها العسكرية أمر مهم بالنسبة لموسكو إذا ما أرادت روسيا منع كييف من تحقيق طموحها طويل الأمد المتمثل في الانضمام إلى حلف الناتو. وطالما تواصل القتال، ستُعلق محاولات أوكرانيا للانضمام إلى الحلف؛ إذ إن السماح بعضوية كييف أثناء الحرب سيحمل الدول الأعضاء في الناتو على المشاركة بشكل مباشر في الصراع، وهو تصعيد يسعى القادة الغربيون حثيثا إلى تجنبه.
لكن كييف أوضحت بجلاء أنها، إن هي أفلحت في هزيمة الروس، فإن خطوتها التالية ستكون السعي للحصول على العضوية الكاملة في الحلف، وهي خطوة من شأنها أن تمثل ضربة قاصمة لبوتين، الذي برّر غزو أوكرانيا الذي جرى العام الماضي من خلال المبرر الذي مفاده: منع كييف من الانضمام إلى حلف الناتو.