فلسفة المتعة

فلسفة المتعة

شاع في الوسط الثقافي أن ترتبط فكرة البحث عن المتع والملذات باسم أبيقور، فيقال اللذة الأبيقورية أو الحلّ الأبيقوري أو طريق أبيقور المعبّد بالحسيّات، لكن كل هذا غير صحيح فهو من أبعد الناس عن الشهوات. إنما هو خطأ آخر وقع في أثناء تدوين التاريخ الفلسفي ثم شاع فأصبح كأنه من الثوابت. أبيقور الذي عاش على وجه التقريب ما بين (341 – 270) قبل الميلاد، لم يكن يبحث عن اللذة بل كان يرغب في الهرب من الألم، ولك أن تقول إن هذا هو مذهبه في اللذة. لم يكن أبيقور فيلسوفا أصيلا، بل اكتفى بتبني فلسفة ليوكيبوس وديمرقريطس الماديين، ولم يكن مذهبه متماسكا كمذهبهما. وافق على خلود المادة، مادة حركتها من داخلها، وزاد فكرة الانحراف الذي يغير مسار الذرات لكي يفسر اصطدام الذرات المتحركة في الفضاء الفارغ بسرعة متساوية. وهو حسيّ فيما يخص نظرية المعرفة، فإحساساتنا صادقة لأنها تنطلق من الواقع الموضوعي، غير أن الأخطاء تقع بسبب تفسيراتنا لتلك الأحاسيس. هذا جيد، لكنه يفسر أصل الأحاسيس على طريقة يسميها الماديون المادية الساذجة، فهو يراها تدفقا مستمرا للجزئيات الدقيقة يزاح من سطح الأجسام ليخترق الحواس ويُحدث فيها صورا للأشياء. ومن وجهة نظره، إن غاية المعرفة تحرير الإنسان من الجهل والخرافة، وهو لا ينكر آلهة الإغريق، لكنه يرى أنها لا تتدخل في مجريات الكون، وأن السعادة مستحيلة ما لم يحصل التحرر من الخوف. ولن يحقق الإنسان السلام الداخلي إلا من خلال المتعة العقلية لا الحسية.

مذهب اللذة الحقيق بالتسمية سابق زمنيا لأبيقور فالذي أسسه هو تلميذ من تلاميذ سقراط اسمه أرسطبوس، كان بينه وبين أفلاطون وأرسطو خصومه، وكان يزعم أن أفلاطون شوّه فلسفة سقراط. أما خصماه فاتهماه بأنه سفسطائي. ويبدو أنه كان من السفسطائيين في البداية إلا أنه أصبح مع دورة الأيام السفسطائي الذي خرج عن دائرته ووضع الطوبة الأولى لمذهب من أعظم المذاهب الفلسفية في عصرنا إلا وهو مذهب المنفعة العامة لكل البشر. هذا التطوير قام على أيدي الفلاسفة الإنكليز توماس هوبز وجون لوك وديفيد هيوم وجون ميل وهربرت سبنسر، لكن أصل الفكرة يرجع إلى هذا الإغريقي العبقري: أرسطبوس.

أول ما أظهر به أرسطبوس التفوق على السفسطائيين هو قوله بغاية واحدة يبتغيها كل الناس ويُحكم على كل فعل بناء عليها. الإيمان بالغاية أدخل الوحدة على تصوّرات الإنسان لحياته مثلما أن نظرية الجاذبية وحّدت ظواهر الطبيعة في رابطة قانون شامل.

أول ما أظهر به أرسطبوس التفوق على السفسطائيين هو قوله بغاية واحدة يبتغيها كل الناس ويُحكم على كل فعل بناء عليها. الإيمان بالغاية أدخل الوحدة على تصوّرات الإنسان لحياته مثلما أن نظرية الجاذبية وحّدت ظواهر الطبيعة في رابطة قانون شامل


انطلق أرسطبوس من الغريزة الفلسفية الحقيقية التي تقود الإنسان إلى عدم الرضا أبدا حتى يجد المبدأ الذي تستند إليه أقواله، وتوصل إلى رد المعرفة إلى المشاعر المباشرة للإنسان الفرد. لا يمكن لأحد أن يلج في عقل غيره بحيث يعرف ما فيه، فالبشر يستعملون أسماء مشتركة، لكن من المستحيل أن نجد شيئا يمكن وصفه بأنه شعور مشترك. وهكذا قرّر أن دراسة الطبيعة تعب بلا جدوى. الدراسة الوحيدة التي يستحقها الإنسان هي دراسة الإنسان، أي دراسة شعور الفرد، أي أنه رد معرفتنا بالأشياء إلى الوعي المباشر عند كل إنسان بشعوره. يفترض العقل غير المتأمل أن كل واحد منا يدرك البرودة والحرارة، والحلاوة والمرارة، والخشونة والنعومة، مباشرة كما هي في الأشياء، إلا أنه بالنسبة لأرسطبوس لا يمكن أن يكون كذلك، لأننا قد نجد شخصين مختلفين، أحدهما يصف شيئا بأنه ساخن، والآخر يصف نفس الشيء بأنه بارد.

القانون والأخلاق هي نتاج ميثاق صريح أو ضمني بين الأفراد، وإن كان ثمة نقطة اتفاق واجب بين الأفراد، هي ما يحثهم لإبرام عقد. ما الغاية المنشودة من الاتفاق؟ لذة الفرد هي الغاية.كل البشر يرغبون في اللذة، ويتجنبون الألم، ولا يبالون بالحالة المحايدة التي لا ألم فيها ولا لذة. كل شخص يرغب، كحقيقة واقعية، في السعادة، وبسبب هذه الطبيعة الواضحة فيه، لا يمكن أن يرغب في أي شيء آخر. وهو يطلب تجنب الآلام ولا يمكنه إلا ذلك، ولا يبالي بالمشاعر الخالية من اللذة والألم.

بالنسبة إلى الأبيقوريين، اللذة ليست بشعور إيجابي على الإطلاق. هي مجرد شعور بالراحة أو الهدوء الذي يعقب الخلاص من الألم. هكذا يشعر العطشان باللذة عندما يتلاشى عطشه بكأس من ماء. أرسطبوس لا يعترف بأن اللذة ذات صفة سلبية، فهي ليست مجرد راحة من الألم، بل تحتوي في رأيه على عنصر إيجابي، ويقرر أن اللذة التي نسعى إليها هي تلك التي نجدها مباشرة في طريقنا، أي أن يكون هدفنا هو انتزاع اللذة من اللحظة العابرة. بعيدا عن كل ندم عبثي على أفراح اختفت، وبعيدا عن التوقعات العبثية بأفراح قد تأتي. الماضي لا يمكن استعادته، والمستقبل يتجلى إلى حد كبير، خلاف ما توقعناه.

لا يعترف أرسطبوس يعترف بأن اللذة ذات صفة سلبية، فهي ليست مجرد راحة من الألم، بل تحتوي في رأيه على عنصر إيجابي



ووصف أي لذة بأنها شر هو وقوع في تناقض المصطلحات، فاللذة عنده خير على الدوام ومرغوبة في كل وقت. ويفترض الناس أن الملذات تختلف في طبيعتها، لأنها تأتي من مصادر مختلفة، ولهذا يقال إن الملذات العقلية أعلى مرتبة من الملذات الحسيّة. حقيقة، لا يوجد أساس لمثل هذا التمييز، فكل اللذائذ لها الطبيعة نفسها كشعور، بغض النظر عن المصدر الذي أتت منه. لقد ردّ كل ما نعرفه وكل ما نفعله إلى الشعور، بحيث يمكن أن نصفه بفيلسوف الشعور.

اللذة هي الشيء المرغوب فيه، والألم هو الشيء المرفوض، وكل شيء آخر يكون مرغوبا أو غير مرغوب فيه بحسب اللذة أو الألم المرتبط به. ولو أن كل واحد منا نظر إلى ما في نفسه، فهل يمكن أن يرغب في الألم أو في الحالة المحايدة لبعض الوقت إن أمكن ذلك؟ لا يمكن له إلا أن يرغب في أن يكون في حالة مستمرة من اللذة السعيدة، إن كان هذا ممكنا. ومن ثم كانت النتيجة أن اللذة هي الغاية الواجبة. إنه لمن الضروري جدا أن نرى بوضوح كل ما يتضمنه هذا النداء إلى هذه التجربة. لاحظ أن رؤية أرسطبوس لا تنحصر في مجرد رغبة كل شخص في اللذة وتجنب الألم، وإنما يقرر أن الإنسان لا يستطيع أن يرغب في أي شيء آخر.

font change