بيكاسو الإشكالي في زمن "أنا أيضا"https://www.majalla.com/node/293001/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A8%D9%8A%D9%83%D8%A7%D8%B3%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B4%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A3%D9%86%D8%A7-%D8%A3%D9%8A%D8%B6%D8%A7
لندن: بعد سنوات قليلة من وفاة بابلو بيكاسو، كتبت فرقة موسيقية من نيويورك تطلق على نفسها اسم "موديرن لوفرز" (Modern Lovers) أغنية ساخرة حول تعرّض بعض الأشخاص للإساءة اللفظية لدى محاولتهم إغواء فتيات، في حين أن "هذا لم يحدث أبدا مع بابلو بيكاسو" لأن "الفتيات لم يستطعن مقاومة نظراته" بحسب كلمات الأغنية.
اليوم، وبعد نصف قرن على رحيل الرسام العجوز، من المرتقب افتتاح معرض جديد لأعماله في بروكلين، ويبدو أن شريحة واسعة من جمهور اليوم تظن أن بيكاسو كان فظا، مما دفع المنظمين على إطلاق اسم "Pablo-matic" على المعرض، في محاولة للعب على كلمة "Problematic" الإنجليزية، التي تعني "الإشكالية".
يبدو أن شريحة واسعة من جمهور اليوم تظن أن بيكاسو كان فظا، مما دفع المنظمين على إطلاق اسم "Pablo-matic" على المعرض، في محاولة للعب على كلمة "Problematic" الإنجليزية، التي تعني "الإشكالية"
هواجس
إلا أن منظمي المعرض ليسوا أول من انتابته الهواجس بشأن بيكاسو، الذي يعد أحد أشهر فناني القرن العشرين. فرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل – الذي كان يمارس فن الرسم بنفسه – كان يتخيّل أنه "يركل" بيكاسو في شارع "وايت هول" في لندن، إلا أن كلامه هذا جاء في إطار النقد الفني وليس الغضب الأخلاقي.
وفي أي حال، نادرا ما شوهد الفنان باريسي المسكن وهو يتمشى في الشارع اللندني. ولكن حتى باريس، التي اختارها الفنان مقاما له، تغيرت وجهة نظرها تجاهه، إذ يسعى معرض جديد مقام حاليا في متحف بيكاسو إلى تسهيل تواصل الشباب وتقاربهم مع أعمال بيكاسو عبر تقديم شروحات عن استخدامه – أو بالأحرى استيلائه على – الفن الأفريقي، وعن سلوكه غير الأخلاقي مع النساء في حياته. وذكرت صحيفة "ذه غارديان" البريطانية أن متحف بيكاسو: "... اختار ألا يتوانى عن الجدل الدائر حول الفنان، الذي أصبحت حياته الخاصة المضطربة – أي معاملته القاسية المزعومة لزوجاته وعشيقاته وملهماته – محط اهتمام لجمهور الشباب أكثر من أعماله الفنية، وذلك منذ انطلاق حركة '#أنا_أيضا' (MeToo#)المناهضة للتحرش الجنسي. ويتجدد الجدل الدائر أيضا حول استخدام الفنانين الغربيين للقطع الأثرية الأفريقية، والتي كان بيكاسو يجمعها". (5 مارس/ آذار 2023).
هل يحتمل أن تكون هذه الجماهير الشابة من نسج خيال القيّم على المعرض؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، يتساءل المرء عن كيفية تعاملهم مع الحياة الخاصة لبعض الفنانين الذكور الآخرين، أولئك الذين كانت سلوكياتهم بغيضة جدا. سيكون من الصعب تقدير كارافاجيو إذا اقتصرت النظرة على جانبه كقاتل متوحش. وعلى أي حال، لا تُظهر عمليات قطع الرأس المتكررة هذه روحا سوية الأخلاق. وكلما عرفت المزيد عن غوغان، فإن النظرة تجاهه ستصبح أسوأ. وثمة من يعتقد أن والتر سيكرت، الرسام الفيكتوري المحترم ظاهريا، كان "جاك السفاح" الحقيقي. ونحن نعلم يقينا أن إريك جيل اقترف أعمالا شنيعة. وقبل أيام دافعت "بي بي سي" عن ترميم تمثاله القائم بجانب المبنى بعد أن هاجمه أحد المتظاهرين بمطرقة.
أسرار مظلمة
لم يتهم أحد بيكاسو بسفاح القربى أو العلاقات الشاذة مع الحيوانات أو القتل (كما هي الحال مع كارافاجيو)، ومع ذلك، كلما تعمق المرء في حياته الخاصة، ازدادت قناعته بأن لديه أسرارا خفية ومظلمة. لذلك، حاول بول سميث، مصمم الأزياء البريطاني، جعل معرض باريس أكثر ارتباطا بالشباب عبر وضع ورق الحائط خلف اللوحات، وإخفاء الحافة البيضاء من الغرف باستخدام النجيل الصناعي الأخضر وورق الكرافت بني اللون، وقال: "بالنسبة إلى عالم البوب الذي نعيش فيه، بات كل شيء في متناول الجميع عبر هواتفهم، ما يجعله عمدا عبارة عن معرض مرئي بكل ما للكلمة من معنى".
ربما يمكن التوفيق بين بيكاسو وتقنيات الهواتف الذكية. ولكن، إذا كانت سلوكياته تجاه المرأة أو تصرفات الاستيلاء الثقافي تجعلنا لا نطيق رؤيته، فهذا يعني ضمنيا مزيدا من تدمير تقديرنا لفنه.
لطالما كان بيكاسو كارها للنساء. والغريب أنه اختار تسجيل مسارح الجريمة بشكل متكرر. إذ فكك مرارا منابع إلهامه إلى أكوام من الخواص الجنسية الأولية والثانوية، وكانت الوجوه مرعبة بشكل غريب، على الأقل مقارنة مع أي معيار تقليدي للاستحسان. هل سبق واستثارت مشاهد بيكاسو الخليعة أي رغبة؟ لا شيء يقترب من تقدير جمال الأنثى في الغالبية العظمى من هذه الرسوم الكاريكاتورية الغريبة. بدلا من ذلك، ونظرا لأن فن الكاريكاتير يكون في العادة ضربا من الهجوم، فيبدو أن بيكاسو استخدمه ضد المقرّبات منه.
لطالما كان بيكاسو كارها للنساء. والغريب أنه اختار تسجيل مسارح الجريمة بشكل متكرر. إذ فكك مرارا منابع إلهامه إلى أكوام من الخواص الجنسية الأولية والثانوية، وكانت الوجوه مرعبة بشكل غريب، على الأقل مقارنة مع أي معيار تقليدي للاستحسان
الفن الأفريقي
الشيء الآخر الذي يعترض عليه القيّمون النقاد هو استيلاؤه المفترض عاى الفن الأفريقي. في معظم الحالات، كان بيكاسو أشبه بأبي الهول في المقابلات. اقتصر على نشر مقاطع صوتية أو أجزاء من فلسفة زائفة للترويج لذاته، موضحا بإسهاب مدى الانحطاط الذي قد يصل إليه الفنانون في حال إجبارهم على استخدام الكلمات كوسيط في التعبير. لكن في مناسبة واحدة على الأقل، لم يكن الأمر كذلك، وعندما تحدث عن معنى التغيير، أفصح عن الحقيقة. في ربيع عام 1907، زار متحف علم الأعراق في تروكاديرو، وبذل جهدا مقصودا "... لفحص هذه الأقنعة، كل هذه الأشياء التي صنعها الناس لغرض سحري ومقدس، لتكون بمثابة الوسيط بينهم وبين ما يحيط بهم من قوى معادية مجهولة، في محاولة للتغلب على مخاوفهم عبر اللون والشكل. بعد ذلك فهمت ما تعنيه اللوحة حقا. إنها ليست معالجة جمالية، بل هي ضرب من السحر الذي يقحم نفسه بيننا وبين الكون المعادي، ووسيلة للاستحواذ على السلطة عبر فرض شكل على مخاوفنا وعلى رغباتنا. في اليوم الذي فهمت فيه ذلك، وجدت ضالتي".
يا لغرابة أن يأتي مثل هذا اللفظ "للعناصر الجمالية" من فنان. لكن فجأة أصبح قبح نسائه منطقيا. إنه نابع عن صراعه مع عدم معرفتهن. تبنى بيكاسو بشغف أساليب الفودو للتعامل مع الرغبة التي كانت أيضا تشكل رعبا. يشير إبداعه الغزير لصور النساء إلى أن امتلاكه لتلك القوة جعله تواقا للحصول على المزيد. كان من الصعب إشباع رغبته في التغلب عليهن.
هكذا، أدى منطق الفودو بشكل طبيعي إلى فن جمالي معاكس كان الغرض منه صدّ الشرّ. يظهر الانتقال من الجمال إلى القباحة في لوحة "آنسات أفينيون"، واللواتي تتدرج وجوهههن من الجمال الشبيه بالقناع إلى القبح الواضح. في حال وجدنا صعوبة في النظر إلى تلك الآنسات، وأحسسنا بالنفور من حياة الفنان الخاصة، فربما يكون ذلك لأننا نفضل عدم النظر مباشرة في عيني كونٍ عدواني. في المقابل، كانت نظرة بيكاسو الشهيرة ثابتة. بعد كل شيء، يبدو أن هذا العجوز الفظّ لديه درسٌ يعلّمنا إياه.