في الخامس من يونيو/حزيران 1967، أي قبل 56 عاما، شنّت إسرائيل حرباً على ثلاث دول عربية (مصر وسوريا والأردن)، تغلّبت فيها على جيوش تلك الدول، في أيام ستة، ونجم عنها ازدياد مساحتها من 21 ألف كيلومتر مربع إلى 110 آلاف كيلومتر مربع، بثمن قدره 800 جندي وضابط من جيشها. إضافة إلى سيطرتها على كامل أرض فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، وسيطرتها على أكثر من مليون فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة (اليوم ثمة 5.4 مليون فلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967، وبإضافة فلسطينيي 48 يصبح العدد 7 ملايين و100 ألف فلسطيني بين النهر والبحر).
وقد أسّست إسرائيل في تلك الحرب صورتها كدولة رادعة، ولأسطورتها عن "الجيش الذي لا يقهر"، وباتت موضع اهتمام الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة التي اهتمت بدعمها من كل النواحي. كما عزز ذلك الانتصار من طابع إسرائيل كدولة يهودية ومن مكانتها كمركز ليهود العالم. كما حسّنت وضعها الاقتصادي، بحيازة أراض زراعية جديدة وبتمكينها من السيطرة على المصادر المائية (في الضفة والجولان)، واستخدام اليد العاملة الرخيصة من الضفة والقطاع، وتحويل تلك المناطق إلى سوق استهلاكية لإسرائيل.
وبما أنه لا يوجد نجاح كامل، ولأن لكل ظاهرة نقيضها، فقد نجم عن تلك الحرب صعود المقاومة المسلحة، وبروز الكيانية الفلسطينية، أي إن هاتين الظاهرتين تدينان بصعودهما إلى هزيمة يونيو/حزيران، إذ من الصعب تخيّل حال الحركة الوطنية الفلسطينية والكفاح المسلح، من دون هذا الوضع، الذي سهّل صعود العمل الفدائي من الأردن ولبنان وسوريا، كحاجة عربية للتغطية على النكبة الثانية، أو النكسة (بالمصطلحات الرسمية)، مثلما سهّلت تبلور الكيانية الفلسطينية المتمثلة في منظمة التحرير.
طبعا لا يعني ذلك أنه من دون حرب يونيو (67) ما كنا سنشهد حركة وطنية فلسطينية، إنما القصد أن تلك الحركة كانت ستظهر وتعبر عن نفسها بأشكال وبمظاهر أخرى مختلفة، ربما أضعف شيء فيها هو الكفاح المسلح، والوجود العسكري الفلسطيني في الأردن ولبنان، بالشكل الذي شهدناه في البلدين، علما أن ظاهرة الكفاح المسلح من الخارج انتهت بعد اجتياح إسرائيل للبنان (يونيو 1982)، وأن ظاهرة الكيانية الفلسطينية الجامعة تصدعت بإقامة السلطة بموجب اتفاق أوسلو (1993)، ككيان لجزء من شعب على جزء من أرض.
نجم عن حرب يونيو/حزيران صعود المقاومة المسلحة، وبروز الكيانية الفلسطينية، أي إن هاتين الظاهرتين تدينان بصعودهما إلى هزيمة يونيو
مقابل ذلك، أي تسهيل صعود الكيانية الفلسطينية والكفاح المسلح، فإن الظاهرة المعاكسة تمثلت في انتقال السياسة الرسمية العربية، من مستوى الصراع على وجود إسرائيل، إلى مستوى الصراع على حدود إسرائيل (إزالة آثار العدوان)، ومن مواجهة المشروع الصهيوني، إلى مواجهة العدوان الإسرائيلي، ومنذ ذلك الحين، ورغم كثير من التطورات والتحولات، فإن معادلات تلك الحرب لم تتغير، وما زلنا نعيش تداعيات ما بعدها.
أما على صعيد إسرائيل، فقد أدت تلك الحرب إلى توحيد فلسطين، أو ما تطلق عليه "أرض إسرائيل الكاملة"، بحيث بات ثمة تطابق في إدراكات الإسرائيليين بين "دولة إسرائيل"، و"أرض إسرائيل"، وفق المفهوم التوراتي ("أرض الميعاد")، والمقصود مناطق الضفة الغربية ("يهودا والسامرة" بالتعبير الإسرائيلي)، وحيث القدس باتت موحدة، ما نتج عنه تطور سياسي إسرائيلي كبير لجهة اقتراب الصهيونية الدينية من الصهيونية القومية والصهيونية العلمانية؛ ما أدى بعد عشرة أعوام إلى صعود الليكود، واليهود الشرقيين والمتدينين إلى سدة الحكم في إسرائيل، إلى اليوم، باستثناء فترات قصيرة.
بيد أن إسرائيل، مع ذلك، لم تستطع ضمّ الضفة والقطاع، ولا لفظهما، بسبب مقاومة الفلسطينيين للاحتلال، وممانعة الدول الغربية، وبسبب تخوف الإسرائيليين من التحول إلى أقلية، أو تحول دولتهم إلى دولة ثنائية القومية، فحتى قطاع غزة الذي انسحبت منه إسرائيل (2005)، وفرضت عليه الحصار المطبق، وبات كل شيء فيه (العبور وحركة البضائع والأشخاص) تحت السيطرة الإسرائيلية.
أيضا، ونتيجة لتلك الحرب باتت إسرائيل تُعرّف كدولة استعمارية، لاحتلالها أراضي بالقوة، وسيطرتها على شعب آخر، وباتت علامات الشك تُطرح بشأن صدقية الديمقراطية الإسرائيلية التي بدت ديمقراطيةً لليهود وحدَهم، في حين يجري التمييز ضد السكان من غير اليهود؛ مما أثار شبهة العنصرية بالنظام الإسرائيلي الذي بات نظاما استعماريا وعنصريا في آن معًا؛ وذلك حتى بتقدير محللين ومنظمات حقوق إنسان في إسرائيل.
هكذا أدى احتلال الضفة والقطاع إلى توحيد الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني أيضاً، إذ التقى فلسطينيو 48 مع فلسطينيي الضفة والقطاع، ما عزز من مسار هويتهم الوطنية (الفلسطينية)، الأمر الذي انقطع مع إقامة السلطة، وتهميش منظمة التحرير، الذي أدى إلى ظهور تباين في الأولويات والمصالح الفلسطينية؛ وهذا ما تشتغل إسرائيل على تعميقه اليوم.
لم تستطع إسرائيل ضمّ الضفة والقطاع، ولا لفظهما، بسبب مقاومة الفلسطينيين للاحتلال، وممانعة الدول الغربية، وبسبب تخوف الإسرائيليين من التحول إلى أقلية، أو تحول دولتهم إلى دولة ثنائية القومية
وكما هو معلوم، فإن غياب الحسم في إسرائيل بشأن مصير الأراضي المحتلة (الضفة والقطاع)، خلق انشقاقات سياسية وفكرية عديدة في المجتمع الإسرائيلي، بين اليمين واليسار، وبين مؤيدي التسوية أو الانسحاب من الأراضي المحتلة، وضمنهم أصحاب نظرية وحدانية شعب إسرائيل، من جهة، والقوميين المتطرفين، وضمنهم المستوطنون وأصحاب نظرية أرض إسرائيل الكاملة من جهة أخرى. ويأتي ضمن ذلك تعمق التناقض بين أولوية إسرائيل كدولة يهودية أو أولويتها كدولة ديمقراطية، بالارتباط مع الاحتلال، ومع طبيعة مكانة الفلسطينيين.
أخيرا، في منظور اليوم، يرى المحلل الإسرائيلي عكيفا الدار، أن إسرائيل هزمت في العام 1967، ففي رأيه أن "السقوط في هاوية الفصل العنصري والاستبداد والعزلة... حوّل الإنجاز الباهر في ساحة الحرب إسرائيل إلى الدولة الكولونيالية الوحيدة في العالم الغربي... بوجود طرق عمل غير ديمقراطية، تمارس في المناطق المحتلة، وتتسرب إلى مناطق من قاموا بالاحتلال... إن تمسك إسرائيل بالمناطق، التي احتلتها عام 1967، يمكن أن يكون كارثياً أكثر من النكبة... النكسة الإسرائيلية ستؤدي إلى نهايتها كدولة يهودية وديمقراطية، وستضع حجر الزاوية لدولة عربية على أنقاض حلم الصهيونية". ("هآرتس"، 3/6/2023).
أما المحلل الإسرائيلي جدعون ليفي، فيرى أن إسرائيل في واقع آبرتهايد مؤقت، في رأيه، وأنها ستقف في يوم ما أمام خيارين: "نكبة ثانية... أو دولة ديمقراطية واحدة". ("هآرتس"، 29/5).
وثمة كثير من المحللين يؤكدون أن الاحتلال يغذي العنصرية والفساد في إسرائيل، وأنه يجب التحرر من الاحتلال للحفاظ على الدولة.