بين الورقي والإلكتروني

بين الورقي والإلكتروني

ما الذي يميز النصّ الإلكتروني عن النصّ الورقيّ؟ قبل أن يظهر النشر الإلكتروني كانت لنا، لا أقول معايير ثابتة، وإنما أعراف متّبعة تسمح بالتّمييز بين ما يصلح للنّشر على صفحات المجلات، وما يصلح للجرائد. وحتى إن كان النّشر في الجريدة فهناك ما ينشر في الصفحة الأولى، وما يظهر على الأخيرة، بل هناك ما لا يمكن أن يظهر إلا في ملحق أسبوعي، علما بأن الجرائد لم تكن لتتساوى في أعيننا. فلم نكن ننظر إليها إلا كصوت من أصوات حزب بعينه، أو، على الأقل، كمنبر موال لجهة في مواجهة أخرى.

الخلاصة أنّ ما كنّا نكتبه كان يُحدِّد، ويَتحدد بـ"أين" نكتبه، وأنّ منبر الكتابة كان يحدد قيمتها، بل شكلها وحتى مضمونها والهدف من نشرها. في هذا الإطار تميّزت مجلات عن مثيلاتها، وكتّاب عن زملائهم. في فرنسا، على سبيل المثال، كان هناك كُتّاب مجلة "نقد" الفرنسية، وهم يختلفون تمام الاختلاف عن كتّاب "المجلة الفرنسية الجديدة"، بل حتى عن كتّاب "النقد الجديد"، و"الإنسان والمجتمع". الأمر ذاته يمكن أن يقال بطبيعة الحال عن مجلاتنا العربية. هناك مجلات تعرف بجديتها وبقيمة من يكتبون فيها، وأخرى تضم المستويات جميعها.

بل إن دور النشر ذاتها كانت تتوزع وقتها إلى جهات غير متكافئة. فمن ينشر عند "المنشورات الجامعية الفرنسية" أو "غاليمار" في فرنسا، ليس كمن ينشر عند "ماسبيرو" أو "المنشورات الاجتماعية". كتّابٌ أمثال سارتر وفوكو لم يكونوا ينشرون إلا عند "غاليمار". وبالمثل، من كان ينشر في "دار الطليعة" عندنا في العالم العربي ليس كمن ينشر في "دار المعارف"، أو "دار العلم للملايين". لقد كان اسم دار النشر على الغلاف يكاد يدخل ضمن المحدّدات الفكرية للكتَاب ويعيّن توجّهه وأهميته فيحدد قرّاءه. كل هذا لندلّل بأن منابر النّشر ليست مسألة عَرَضية، وإنما تدخل في وسم الكتابة وتحديد شكلها بل حتى معانيها.

لم يكن هذا الأمر ليخفى على قدمائنا الذين لم يحدّدوا الكتابة بالمنبر والمقام فحسب، وإنما أيضا بالمادة التي تُكتب عليها والحامل الذي يحملها. وقد بيّن عبد الفتاح كيليطو في "الكتابة والتناسخ" كيف كانت قيمة النصوص عند قدمائنا تتغير بحسب حواملها. وهو يورد في هذا الصدد اقتباسا للجاحظ يثبت فيه أن النصّ لا يلقى الاستجابة نفسها إذا كان مكتوبا على قطعة جلد أو على دفاتر القطني: "فليس لدفاتر القطني أثمان في السوق، وإن كان فيها كل حديث طريف، ولطف مليح، وعلم نفيس. ولو عرضت عليهم عدلها في عدد الورق جلودا ثم كان فيها كل شعر بارد وكل حديث غث، لكانت أثمن ولكانوا عليها أسرع". فكأن النص يستمد قيمته من الجلد الذي حُمل عليه. ولا عجب في ذلك فالجلود "أحمل للحك والتّغيير، وأبقى على تعاور العارية وعلى تقليب الأيدي، ولرديدها ثمن، ولطرسها مرجوع، والمعاد منها ينوب عن الجدد". ما يفيد أن قدماءنا كانوا على أتمّ الوعي بأن "أرواح" النصوص تستمد من "أجسادها"، وأن للكتابة جسدا تعيش به وعليه، بل هو الذي يحدد قيمتها ويسهم في تعيين معناها.

كان قدماؤنا على أتمّ الوعي بأن "أرواح" النصوص تستمد من "أجسادها"، وأن للكتابة جسدا تعيش به وعليه، بل هو الذي يحدد قيمتها ويسهم في تعيين معناها. ربما على النحو ذاته يمكننا أن نؤكد أن الكتابة الإلكترونية أصبحت ترسّخ اليوم عوائد جديدة، وتعطي للمكتوب خصائص لم يكن له عهد بها فيما قبل

ربما على النحو ذاته يمكننا أن نؤكد أن الكتابة الإلكترونية أصبحت ترسّخ اليوم عوائد جديدة، وتعطي للمكتوب خصائص لم يكن له عهد بها فيما قبل.

أول ما يميّز هذه الكتابة هو كونها تعتمد ذاكرة "مستقلة" عن ذاكرة الكاتب. فما ينشره الكاتب على الموقع الإلكتروني لا يضيع بنسيانه ولا يتوقف على مدى حفظه للكتاب وتذكّره لمحتواه، وحتى إن رغب هو في إتلاف النص فلن يكون الأمر بمقدوره، لأن "ذاكرة الشبكة لا تنسى".

ثم إن الكاتب على الموقع الإلكتروني لا يمكنه أن يتحكّم بالضبط في الموقع، أو على الأصح المواقع التي ينشر فيها. إذ بمجرد أن يظهر نصّه في أحدها حتى يدخل في مسلسل الاستنساخ اللامتناهي، وسرعان ما يقرأ الكاتب نفسه في منابر لم يكن له عهد بها، ويجد نفسه بين كتاب آخرين لم يكن ليتصور أنه قد يشاركهم المنبر نفسه، إلى حدّ أن بإمكاننا القول إنه لا يمكن للكاتب اليوم أن يزعم أنه يكتب في منبر بعينه، أو أنه يختار المنابر التي ينشر فيها. إنه يرمي بنصه في الشبكة، ويُلقي به في عارضة الطريق، وهو اليوم "طريق سيّار".

فضلا عن ذلك فإن هذه الكتابة ترسخ علاقة جديدة بين الكاتب والقارئ، بين المؤلف والناقد. وهذه إحدى المميزات الأساسية لهذه الكتابة، وهي أنها غالبا ما تدخل في مسلسل التعليق والتعليق المضاد بمجرد أن "تلعقها" الشبكة. هناك "سيولة نقدية" مخالفة لما كان معهودا في الكتابة الورقية. ذلك أن هاته الأخيرة، نظرا لما تعرفه من بطء النشر والانتشار تحتاج إلى كبير روية كي تُتلقى وتُهضم حتى يتمّ انتقادها. أما الكتابة الإلكترونية فهي تكاد تظهر مع حواشيها دفعة واحدة، بل غالبا ما يغدو حجم التعليقات والحواشي أضخم بكثير من النصّ ذاته. وهي تعليقات تتمتع بقدر كبير من "الحرية"، خصوصا وأنها معفية من الرقابات المتنوعة التي يفرضها النشر الورقي عادة. ولا يخفى أن هذا التواصل السريع يسمح للكاتب بأن "يقوّم" منتوجه ويعرف عدد من أقبل على استهلاكه، وعدد "اللايكات" التي جناها، وردود الفعل السلبية التي لقيها. لعل ذلك هو ما يبرّر "غزارة" الإنتاج التي أخذنا نلحظها عند الكتّاب الذين ينشرون على الشبكة. فربما كانت سهولة التلقي وسرعة "الاستهلاك" والتعليق هي التي تجرّ الكاتب لأن يواصل حواره مع قرائه بمجرد أن يتلقّى ردودهم. لنقل بأنّ التفاعل بين الكاتب والنّاقد يغدو بفضل النشر الإلكتروني أوسع، وأسرع، وربما أشد إرغاما. خصوصا وأن مفهوم "الناقد" أصبح عائما في مثل هذا النوع من النشر. إذ في متناول الجميع أن يدلي بدلوه وأن "يعلق" على المقال مباشرة بعد الاطلاع عليه، بل وأن يتخفى وراء أسماء مجهولة كي يتخطى نقد النص فيأخذ في "انتقاد" صاحبه.

أصبح مفهوم "الناقد" عائما، إذ في متناول الجميع أن يدلي بدلوه وأن "يعلق" على المقال مباشرة بعد الاطلاع عليه، بل وأن يتخفى وراء أسماء مجهولة كي يتخطى نقد النص فيأخذ في "انتقاد" صاحبه

الخلاصة إذن أن هذه الكتابة ترسّخ علاقة مغايرة بالزمن، زمن التذكّر، وزمن الإنتاج والكتابة، وزمن التلقّي والقراءة، وزمن التفاعل مع النصوص ومع أصحابها. الأمر الذي سمح بظهور ما يمكن أن نسمّيه "مجلات يومية"، أو "يوميات" على شكل مجلة تتنوع أبوابها وتتعدد موضوعاتها. وهو أمر لم يكن يسمح به النشر الورقيّ على الإطلاق، إلى حدّ أن اسم "اليومية" لم يقترن إلاّ بالجريدة السيارة التي لا تعمّر طويلا ولا تنشر ما من شأنه أن يبقى ويدوم.

إلاّ أنّ ما ينبغي تأكيده هو أن هذه العلاقة المغايرة بالزمن أخذت تجد صداها حتى في بنية النص الإلكتروني ذاتها.  فما يطبع هذا النصّ هو خفّته وإحساسه بأنه ينبغي أن يكون "لايت"، وأنه لا بدّ وأن يتميز عن النص الورقي الذي يحافظ على ثقله وترويه ورويته، ليغدو نصا رحّالا يعرف أن مصيره هو أن يكون سريع الزّوال حتى وإن ظلّ عالقا بالشبكة.

font change