التاريخ المجهول لسرقة المخطوطات اليهودية وتهريبها من سورياhttps://www.majalla.com/node/292876/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%87%D9%88%D9%84-%D9%84%D8%B3%D8%B1%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D9%87%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D9%87%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
كما كان متوقعا، بيعت قبل فترة قصيرة "مخطوطة ساسون" الشهيرة (Codex Sassoon 1053 ) من الكتاب المقدس العبري في دار مزادات "سوذبيز" بمبلغ يزيد على ثمانية وثلاثين مليون دولار أميركي، وهو أعلى سعر لهذا النوع من المخطوطات التي تلهب قصص تهريبها وبيعها خيال الكثيرين لاجتراح القصص الغرائبية، وبث الشائعات المثيرة، ذات الحبكات البوليسية، خصوصا أن مالكها المليونير اليهودي العراقي ديفيد سليمان ساسون (1880-1942)، ظل طوال حياته يعليها فوق جميع مخطوطات مجموعته الضخمة البالغة 1200 مخطوطة بسبب كمال نصها الماسوري الملفوف على محورين، أو ربما بسبب قدمها، حيث بينت اختبارات "الكربون المشع 14" التي أجراها عليها مالكها الأخير رجل الأعمال اليهودي اللبناني جاكي صفرا (المولود في بيروت عام 1940)، أنها تعود لأواخر القرن التاسع ومطلع القرن العاشر الميلادي، وهو ما يجعلها مساوية من حيث القدم لمخطوطة حلب الشهيرة، وأقدم بقرن كامل من مخطوطة لينينغراد العائدة للعام 1008م.
اختفت المخطوطة خمسة قرون، لتعاود الظهور في 1929 حين اشتراها ديفيد ساسون، ولا أحد يعرف حاليا ممن اشتراها، ولا في أي مدينة بيعت، رغم الشائعات الكثيرة التي ترجّح أن ساسون اشتراها من أحد مالكيها السوريين
طواف في مدن الشرق
بعد كتابتها طافت "مخطوطة ساسون" على عدد من مدن الشرق لتستقر في دمشق، إذ تبين الكتابات والتواقيع عليها أنها انتقلت من ملكية خلف بن إبراهيم، إلى إسحاق بن حزقيال العطار، ثم إلى ابنيه حزقيال وميمون في القرن الثالث عشر الميلادي، قبل أن تُخصّص لكنيس قرية ماكسين في الجزيرة الفراتية، والتي أصبح اسمها قرية "مركدة" في محافظة الحسكة السورية. وبعد تدمير كنيس ماكسين على يد المغول في القرن الثالث عشر، آلت ملكيتها لسلامة بن أبي الفخر، الذي يضيف عليها حاشية تذكر أن كنيس ماكسين كان ينتظر إعادة بنائه، وهو أمر الذي لم يحدث قط بعد ذلك.
بعد تلك الحاشية، اختفت المخطوطة خمسة قرون، لتعاود الظهور في العام 1929 حين اشتراها ديفيد ساسون، ولا أحد يعرف حاليا ممن اشتراها، ولا في أي مدينة بيعت، رغم الشائعات الكثيرة التي انتشرت في ذلك الوقت، وهي شائعات ترجّح أن ساسون اشتراها من أحد مالكيها السوريين. ويمكن تتبع ذلك الخيط من الأخبار الصحافية التي لخصتها يومها مجلة "المسرة" الصادرة عن الآباء البولسيين في حريصا: "شاع الخبر في 20 شباط (عام 1938) أن نسخة ثمينة جدا من التوراة سرقت من كنيس "حوش الباشا" بدمشق، قالت الصحف إنها مكتوبة على رق الغزال بماء الذهب، منذ تسعة قرون، وإن نسخة مثلها كانت في حلب وسرقت في أثناء الحرب الكبرى السابقة (1914- 1918م)، ولكنها الآن عند المستر ساسون الإسرائيلي الإنجليزي المشهور بثروته. وقيل إنه عرض عليه خمسون ألف جنيه ثمنا لها، فلم يقبل أن يبيعها. وبعدما قالت الجرائد إن النسخة المسروقة حديثا من دمشق تساوي 1500 ليرة ذهب. ووصلت المبالغات في تقدير قيمتها حتى إلى مليون جنيه! على كل حال التحقيق جار بكل همة بشأن هذه السرقة".
ظلت هذه المخطوطة مملوكة لأحفاد ديفيد ساسون حتى العام 1978 حين باعوها إلى صندوق تقاعد السكك الحديدية البريطانية من خلال دار مزادات "سوثبيز" فرع زيورخ، ثم عرضت بعدها لمرة واحدة عام 1982 في المتحف البريطاني، لتنتقل في العام 1989 إلى ملكية المستثمر جاكي صفرا ، بعد أن دفع أكثر من مليوني جنيه إسترليني لتاجر اشتراها في العام نفسه من مزاد "سوذبيز".
قوى خفية!
يمكن إرجاع حالة الهوس بجمع مخطوطات الكتاب المقدس العبري، إلى حقيقة أنه على الرغم من "المأثور" عن قدم الديانة اليهودية، وأسبقيتها، فإن الأرشيف اليهودي لا يحتوي نصا لـ "التوراة"، سواء أكان كاملا أو ناقصا، يرجع لأبعد من ألف عام، وهذا أمر يخلق حالة من التشكيك الدائم بمصداقية الروايات الدينية وقصص وأخبار "العهد القديم" من جانب صف عريض من الباحثين والأكاديميين أتباع مدارس "النقد النصي" (Textual Criticism). ولكن موضوع الهوس بجمع المخطوطات له أسباب أخرى عند عموم المؤمنين، فاليهود الشرقيون يعتقدون بوجود قوى سحرية غامضة لهذه المخطوطات، وأن الحصول على قطعة صغيرة منها كفيل بضمان الصحة والعافية لحاملها. وثمة اعتقاد لدى النساء اللواتي يعانين من العقم بأن مجرد النظر إلى هذه المخطوطات، كفيل بتحقق أمانيهن بالحمل والإنجاب.
وكنوع من استمرار تقاليد اللعن المأثورة عند الكثير من شعوب الشرق القديمة، فإن هذه المخطوطات مذيلة بعبارات من قبيل: "صفحات عند الرب لا تباع ولا تتنجس"، و"ملعون من يسرق وملعون من يبيع". وتعتقد المجتمعات اليهودية الشرقية بأن هذه المخطوطات تحميها من مخاطر الأوبئة، والكوارث، وأن من يعبث بها سيصاب باللعنة.
يمكن إرجاع حالة الهوس بجمع مخطوطات الكتاب المقدس العبري، إلى حقيقة أنه على الرغم من "المأثور" عن قدم الديانة اليهودية، وأسبقيتها، فإن الأرشيف اليهودي لا يحتوي نصا لـ "التوراة"، سواء أكان كاملا أو ناقصا، يرجع لأبعد من ألف عام
مخطوطات حلب
من الأمور اللافتة أن الغالبية الساحقة من هذه المخطوطات كانت تحتفظ بها الجاليات اليهودية في سوريا، وخصوصا دمشق وحلب، ربما بسبب حالة الاستقرار الطويلة التي عاشتها هذه الجاليات في المدينتين العريقتين، وربما بسبب تحولهما إلى مركزي جذب ليهود الأندلس (السفارديم)، منذ نهاية حروب الاسترداد (Reconquista) عام 1492م، والذين نقلوا معهم مخطوطاتهم حين أجبروا على مغادرة مدينتهم المفقودة.
بالإضافة إلى مخطوطة ساسون رقم 1053، تعد مخطوطة حلب (Aleppo Codex) واحدة من أقدم المخطوطات العبرية وأهمها، كُتبتفي مدينة طبريا حوالي عام 920م، أثناء الحقبة العباسية، كما هو موضح في هوامشها. وقد آلت بعد حوالي مائة عام من كتابتها لطائفة اليهود القرائين، وهي طائفة أسسها في بغداد الرابي عنان بن داود (715 – 795م) بعد أن تأثر بأفكار الفقيه المسلم أبي حنيفة النعمان حين كانا مسجونين بأمر من الخليفة أبي جعفر المنصور. وحين استولى الصليبيون على بيت المقدس عام 1099، عثر على المخطوطة في كنيس القرائين بالمدينة المقدسة، فاحتجزت من جانبهم مقابل فدية كبيرة، دفعها متمولون يهود مصريون بسعي من يهود عسقلان القرائين، ولذلك انتقلت إلى كنيس الفسطاط في القاهرة، وهناك عاينها الرابي موسى بن ميمون الأندلسي القرطبي (1135 – 1204م) وأقر بدقتها.
ويشاع أنه في العام 1375م أحضرها أحد أحفاد موسى بن ميمون إلى حلب، وبقيت في كنيسها المركزي إلى عام 1947، حيث اختفت خلال أعمال شغب أدت إلى حرق الكنيس. ولكنها عادت لتظهر من جديد في إسرائيل عام 1958، ولكن بعد أن خسرت ما يزيد على 60 بالمائة من نصها الأصلي. ولم تنجح الجهود سوى في استعادة ورقتين إضافيتين منذ ذلك التاريخ. علما أنها أدرجت في سجل التراث العالمي لمنظمة اليونسكو عام 2015، بعد حرب قضائية على ملكيتها بين الجالية اليهودية الحلبية وعدد من المؤسسات الإسرائيلية.
من الناحية التقنية تعد مخطوطة لينينغراد (Leningrad Codex) نسخة من مخطوطة حلب، نسخت في العام 1008م في مدينة القاهرة، وتنبع أهميتها من أنها تعد مرجعية لغوية وقواعدية لمدرسة طبريا، ففيها ملاحظات ماسورية في الهوامش، والعديد من الحواشي الفنية التي تتناول التفاصيل النصية واللغوية، وكثير منها مرسوم بأشكال هندسية جميلة، وهي منسوخة على رق مجلد.
ولعل أكثر مقتنيات ساسون قيمة هي "مخطوطة فارحي" (Codex farhi) التي اشتراها من حلب أيضا، وهي مخطوطة تحتوي على أكثر من 359 رسما إيضاحيا من وحي قصص التوراة، ويبدو من اسمها أنها كانت بملكية أحد أفراد عائلة فارحي اليهودية الدمشقية الشهيرة، وتكمن أهميتها في احتوائها على رسومات نادرة خطها إليشع كريسكاس في مقاطعة بروفانس، جنوبي فرنسا، بين عامي 1366 و 1383. وهي محفوظة الآن في بنك سويسري.
تاج دمشق والحاخام حمرا
وتعد عملية تهريب مخطوطة "تاج دمشق" (Damascus Crown)، آخر القصص ذات الحبكة البوليسية المتعلقة بمخطوطات الكتاب المقدس العبري، وهي عملية ما زالت تثير الجدل، خصوصا أن المتورط فيها حاخام الطائفة اليهودية السورية السابق إبراهيم حمرا (1943 – 2021)، المعروف بصلاته الوثيقة مع المسؤولين السوريين.
وفقا للحواشي المثبتة على المخطوطة، فقط كتبت في عام 1260م من جانب الرابي مناحيم، ابن الحاخام إبراهيم بن مالك في مدينة برغش (بورغوس وسط إسبانيا الحالية). وقد انتقلت إلى كنيس حوش الباشا في دمشق مع وصول يهود الأندلس إلى العاصمة السورية مطلع العصر العثماني، ومن هنا جاء اسمها. وبعد أن عاينها المؤرخ والمستشرق اليهودي الروسي أبراهام هركافي (1835 – 1919) أثناء زيارته لدمشق عام 1886، أقرّ بأقدميتها، تبعه في ذلك المستشرق أبينام يلين (1900 – 1937) في العام 1919، ليقرّ هو الآخر بأهميتها.
وفي عام 1940، سرقت المخطوطة من كنيس حوش الباشا، ليعثر عليها مرة أخرى في العام 1962. وفي 1993 هُرّبت من دمشق سرا في عملية استخباراتية كشف عنها رئيس الموساد الإسرائيلي السابق إبراهام هاليفي عام 2011. ويومها قال هاليفي للصحافة الإسرائيلية إن الحاخام حمرا "كان يعرف كيف يتكلم، وكيف يقدّم الاحترام للأسد، وهذا ما ساعده على تهريب اليهود وكتب التوراة، وهي عمليات كان يقودها ويبادر إليها بنفسه، وكان دورنا مساعدته، وقد احتفظنا بتيجان دمشق في إسرائيل، ويمكن القول إن حمرا أحد أبطال اليهود".
ويبدو أن عملية التهريب التي يتحدث عنا هاليفي لا تقتصر على مخطوطة "تاج دمشق"، بل تشمل تسع مخطوطات نقلت سرا من سوريا بين عامي 1993 و1995، مكتوبة في غالبيتها في الأندلس، من القرن العاشر الميلادي وحتى القرن الثالث عشر، وبيعت للمكتبة الوطنية الإسرائيلية، بعدما بقيت لقرون طويلة محفوظة في كنيس حوش الباشا.
تتكون مخطوطة "تاج دمشق"، المكتوبة على رق غزال، من 24 سفرا أساسيا من أسفار الكتاب المقدس العبري، مرقمة وفق تقليد طبريا في تدوين الكتاب المقدس، وتحتوي على رموز مجازية، وملاحظات إملائية على كل صفحة من صفحاتها البالغة 428 صفحة بقياس 350 × 270 مم، وهي مكتوبة بخط مربع أندلسي-عبري، بثلاثة أعمدة في كل صفحة، باستثناء أسفار الأمثال وأيوب والمزامير التي كُتبت في عمودين لكل صفحة. وثمة بين كل جزء من أجزاء الكتاب المقدس صفحة توضيحية ملونة مزينة بالذهب.
الغالبية الساحقة من هذه المخطوطات كانت تحتفظ بها الجاليات اليهودية في سوريا، وخصوصا دمشق وحلب، ربما بسبب حالة الاستقرار الطويلة التي عاشتها هذه الجاليات في المدينتين العريقتين، وربما بسبب تحولهما إلى مركزي جذب ليهود الأندلس
بين المخطوطات ولفائف البحر الميت
هذه هي النسخ الأقدم من الكتاب المقدس العبري المعروف عند اليهود باسم "التناخ"، وعند المسيحيين باسم "العهد القديم"، وعند المسلمين "التوراة"، ولم يكشف عن نص متكامل أقدم من هذه النسخ، علما أن ترجمة الكتاب المقدس العبري إلى اللغات الأوروبية، مأخوذة في غالبيتها عن ترجمة يونانية قديمة تسمى "الترجمة السبعينية" كتبت في مصر إبان حكم البطالمة، ولكن حتى هذه الترجمة لا توجد لها نسخ مخطوطة. ومع اكتشاف لفائف "كهف قمران" قرب البحر الميت اعتبارا من أواخر القرن التاسع عشر، بدأت تظهر نصوص متفرقة من الكتاب المقدس تعود غالبيتها للفترة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي.
وفي حين أن بعض لفائف قمران متطابقة إلى حد ما مع النص الماسوري المتضمن في مخطوطات حلب ودمشق، فإن بعض مخطوطات سفر الخروج وصموئيل الموجودة في الكهف الرابع تظهر اختلافات كبيرة في اللغة والمحتوى، الأمر الذي اتخذ حجة من جانب أتباع مدارس "النقد النصي" لإعادة النظر في مجمل النظريات المقبولة علميا لتطور النص الكتابي الحديث المستند إلى ثلاثة مصادر مخطوطة هي: النص الماسوري المتضمن في مخطوطات حلب ودمشق، والترجمة السبعينية اليونانية وأسفار التوراة السامرية الخمسة السامرية. وفي العموم أدرج حتى الآن 225 نصا في لفائف البحر الميت، تبلغ حوالي 22 في المائة من إجمالي الكتاب المقدس القانوني المتعارف عليه الآن.