الرأسمالية التواصلية والنسيان
حاولت الكاتبة دانييل كولبرت إخفاء كتابها الأول المنشور في عام 1961 وحرصت على جمع كل النسخ المتداولة. كانت تؤمن أن في مقدورها اتمام هذه العملية وحدها وأن الأمر مرتبط بها وخاضع لإرادتها وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.
نجت نسخة من عملية الإعدام لكنها لم تنشر إلا بعد وفاتها. كان الأمر ليكون مختلفا الآن، لو أن كولبرت من مواليد التسعينات. فالكتاب كان سيصير كتابها الأخير، بمعنى أنها ستوصف من خلاله على الدوام، وستكون محاولة إخفائه المستحيلة مستقلة عن إرادة الكاتبة ولا تنفع سوى في توليد البيانات.
يختلف يريد المرء أن يمحوه، وأحيانا قد يكون ضروريا لكنه عموما يتعارض مع شبكة مصالح اقتصادية ضخمة لشركات التكنولوجيا الكبرى. الرغبة في الاختفاء تعطل آليات عمل محركات التكنولوجيا القائمة على توظيف البيانات وتحليلها لتطوير خدماتها. فالصراع لم يعد بين الذاكرة والنسيان بل بين النسيان والقيمة السوقية المتزايدة للبيانات.
ضرورة أن يتمكن الشباب من ارتكاب الأخطاء والاستمرار في حياتهم، تشكل هموم صنّاع تشريعات محو البيانات التي تواجه القوانينُ المرتبطة بها تصنيفات العام والخاص، ومسألة تعارض حق الفرد في أن يُنسى مقابل المصلحة العامة.لكن المعضلة تكمن في أن وسائل التواصل نفسها هي التي تجعل الأشخاص شخصيات عامة.
تصف الإعلامية جودي دين القيمة المتفاقمة للبيانات بأنها "رأسمالية تواصلية" حيث "القيمة للتداول نفسه وليس للمحتوى". هذا ما يفسر عدم أهمية توظيف الإنترنت في التعبيرعن حركات سياسية وتحررية مثل "الربيع العربي"، وحركة "حياة السود مهمة"، وحركة "احتلوا" التي أطلقت شعارات تخالف سياسات الشركات المنتجة للتقنية، كما كانت الحال مع شركة "زيروكس" التي طورت تقنية التصوير الجاف، مقدّمة بذلك خدمة سهلة وقليلة التكلفة للنشطاء الذين استعملوها لإصدار منشورات ومطبوعات بسعر زهيد.
في العالم السيبراني وفي وسائل التواصل الاجتماعي ومع التطوير المستمر لتوظيف المعلومات، يتحول كل نشاط إلى بيانات متراكمة، تُفرز وتوظّف لغايات تتناقض مع أهداف أصحابها. فالرأسمالية التواصلية وفق جودي دين قادرة على استيعاب كل ما نضطلع به "وتحويل كل تفاعلاتنا إلى مادة خام لرأس المال".
ضرورة النسيان
صورتك على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تضر بمستقبلك الوظيفي أو الشخصي أو المهني. ففي دراسات حديثة ظهر أن ثلث مسؤولي القبول في الجامعات بحثوا عن المتقدّمين عبر الإنترنت، وفي 2017 ألغت جامعة هارفرد الطلبات المقدّمة من عشرة طلاب ثانويين بعدما تبينت مشاركتهم بميمات مسيئة لمجموعة خاصة على "فيسبوك" للطلاب المقبولين.
تنتشر حاليا عمليات تجميع بيانات الهوية على الإنترنت وتنظيمها وتنظيفها وخدمات إدارة البصمة الافتراضية وفحصها وتنظيفها، وقد يمهد هذا الأمر في مستقبل قريب لنشوء مهنة تنظيف السجلات الرقمية.
كانت وسائل التواصل القديمة مجرد علامات تعريفية يمكننا التحكم فيها وضبطها واتخاذ قرارات في شأن من نتواصل معهم بواسطتها ومن نتوقف عن التعامل معهم. لم يعد مثل هذا السياق ممكنا مع وسائل التواصل الحديثة التي سجنت الفرد داخل المجال الذي يمثله بيته الأول. فانتقاله إلى عالم جديد وبيئة جديدة لا يعني خروجه من أسر دوائر الاتصال القديمة التي تحضر معها كل الشبكات الاجتماعية التي خلفها وراءه.
لم يطبع هذا الاتجاه تجارب الأفراد وحسب بل دمغ تجارب عريضة مثل تجربة الهجرة. ففي حين كان مهاجرو الأمس ينتقلون إلى مجال آخر ويفقدون الصلة بالتجارب السابقة وخصوصا المؤلمة منها ويشرعون في النمو والشفاء، فإنّ مهاجري اليوم من خلال ارتباطهم الدرامي بشبكاتهم الاجتماعية عبر تطبيقات مثل "العثور على أصدقائي عبر الآيفون وغيرها"، يبقون متصلين مع مواضيع الألم بحيث يصبح التعافي صعبا وشاقا.
يصرّ نيتشه أن "النسيان ليس مجرد قوة قصور ذاتي ساكنة مثلما يعتقد الناس السطحيون، بل هو بالأحرى قدرة نشطة على القمع وإيجابية بالمعنى الأقوى للكلمة".أما فريديريك بارتليت في كتابه "التذكر" الصادر عام 1932 فيقول إن "النسيان يحمل أهمية نفسية كبيرة".
طوّر عالِما الأعصاب مايكل أندرسون وسيمون هانسلماير مفهوم "النسيان المحفز"، فهما يعتبران أن الحفاظ على المشاعر الإيجابية أو التركيز والإيمان بحالة معينة والثقة أو التفاؤل، قد يقتضي ضرورة تقليل إمكان الوصول إلى التجارب التي تقوّض تلك الحالات. ويلاحظ عالم النفس التجريبي بنجامين ستورم أنه بقدر ما يكون النسيان محبطا نكون أحسن حالا بوجوده مقارنةً بعدمه.
يتحدث فرويد عن الذاكرة المقنّعة ومغزاها أن ذكريات الطفولة تخضع لعملية مونتاج عبر ربطها بشيء آخر أو عبر إخفاء ما جرى في الوقت نفسه، وتتحدّد مهمتها في حماية الشخص من التذكر القاسي لأحداث مرعبة غير قابلة للاحتمال. أثبت علماء الأعصاب المعاصرون أن الذكريات تخضع لعملية تحديث دائمة وعملية إحلال حدث مصفّى محلّ حدث مزعج وخصوصا خلال الحروب والأزمات الكبرى، ويعطون مثلا على ذلك تذكر فقدان لعبة شخصية خلال الحرب.
ذلك العمل الدفاعي الذي تقوم به الذاكرة قبل وسائل التواصل الاجتماعي والتوثيق الفائق، كان يدفع في اتجاه الفلترة ونسيان ما لا يحتمل، ويسمح بالسير قدما لكنه بات مستحيلا الآن. ذلك أن كل ما عشناه من مواقف يهاجمنا باستمرار وعنف. لقد باتت ذاكرتنا خارجة عن سيطرتنا، وبتنا خاضعين لنظرة الآخر المتنمرة التي تحاصرنا في عالم من الخزي والمخاوف.
مفردة نافذة التي كانت تعني سابقا الإطلال على الخارج أصبحت تعني الآن نافذة الإنترنت التي لا يمنع إغلاقها الآخر من إمعان النظر في خصوصياتنا والتنقيب فيها.
البيانات باتت تملك وجودها الخاص غير الموصول بصاحبها، والخلاصة التي يطرحها "نهاية النسيان" أننا اصبحنا عموما أشبه بعمال سخرة لدى شركات التكنولوجيا الكبرى، تقتصر مهمتنا على توليد البيانات.
نهاية النسيان: صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، ترجمة أستاذ المثاقفة واللسانيات بجامعة محمد الأول عبد النور خراقي.