والثالثة، وهي المرحلة الممتدة منذ صعود نتنياهو مجددا للحكم عام 2009، وأسميها "الجمهورية الثالثة"، وبالأساس تشكلت من تنامي الدعم لليمين الإسرائيلي، وتشكل ما أسميه "الكتلة اليمينية المهيمنة"، والتي تتشكل بالإضافة لليكود من أحزاب اليمين المتماثلة مع المستوطنين وداعميهم في المجتمع الإسرائيلي وأساسا أحزاب المتدينين- القوميين، كما الأحزاب التي تمثل الحريديم في إسرائيل، مثل "يهدوت هتوراه" و"أغودات يسرائيل" وحزب "شاس"، وكلها أحزاب كانت شريكة في الماضي لحزب "ماباي" في الحكم في الجمهورية الأولى، وكانت مستعدة للمناورة بين الليكود وحزب العمل.
وفعلا قامت بالانتقال بينهما، في الجمهورية الثانية، إلا أنها جميعا انتقلت سياسيا وآيديولوجيا لتكون جزءا من اليمين، وتفضيل الليكود وقيادة بنيامين نتنياهو، بشكل كامل. أي إن تغييرا جديا حصل في خيارات وسلوك هذه الأحزاب، وإلى جانب ذلك تعمقت سيطرة الليكود واليمين عموما، في قطاعات سياسية إسرائيلية نامية ديموغرافيا، وهي بالأساس: الشرقيون عموما، المتدينون عموما والحريديم منهم بشكل خاص، وكما لدى غالبية المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي سابقا، والذين وصلوا إلى حوالي خمس اليهود البالغين، المصوتين، في إسرائيل.
ومكنت الكتلة اليمينية المهيمنة، "الليكود" بقيادة نتنياهو من صياغة تصور تشكل تدريجيا لإحداث قفزة جدية في التغييرات المطلوبة، والتي أسميها هنا "النتنياهونية". فرغم التركيز الأخير على "الانقلاب القضائي" والتصدي له من خلال مظاهرات شعبية وعمليات احتجاج متواصلة وجدية، إلا أن هذا الاحتجاج أتى برأيي متأخرا.
ببساطة، بدأ نتنياهو في عملية تغيير جذرية، خطط لها عندما كان في الهامش السياسي بعد تنحيته عن السلطة عام 1999 ونجاح إيهود باراك ضده آنذاك، وصعود نجم شارون. في هذه الفترة تراجعت قوة الليكود إلى مستوى قياسي- خصوصا بعد انسحاب شارون وإقامة حزب الوسط "كاديما" عام 2005. ففي هذه الفترة طور نتنياهو تصوراته ومفاهيمه لكيفية تغيير إسرائيل من خلال إحداث تغييرات سياسية جدية تمنع عودة اليسار للحكم، وتنفي إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة وسلام مع الفلسطينيين، وتؤكد التفوق العرقي لليهود وسيطرتهم على ما يسمى "أرض إسرائيل" بالإضافة لتغييرات في علاقات القوة بين المجموعات المركبة للمجتمع اليهودي الإسرائيلي.
وفي سياق ذلك يتم التأكيد على سيطرة اليمين وتحالفه بما في ذلك إضفاء الشرعية على اليمين الفاشي والعنصري وإشراكه في حكوماته، وأوصل اليسار والوسط إلى طريق مسدود في مشروعه الأساسي الذي تمثل في "مصالحة مع الفلسطينيين"، واستولى على أجندته الاجتماعية- الاقتصادية، وعمّق التواصل مع المجموعات التي كانت مهمشة في الماضي، مما أسفر عن تحطيم اليسار الإسرائيلي، وانزياح الوسط لتبني خط وسطي غير واضح وباهت، أبعد عنه قطاعات مختلفة وأضعفه تدريجيا.
الشعبوية هي الأداة التي يستعملها نتنياهو للاستمرار في حكم إسرائيل، والتي تعني إجمالا صراعا ضد النخب المؤسسة والمسيطرة، والتحريض ضدها وضد المؤسسات التي تسيطر فيها- كالجامعات والجهاز القضائي ووسائل الاتصال... إلخ- وضد المجموعات "الخارجية" بالنسبة للجماعة القومية المسيطرة كالأقليات والمهاجرين، والتركيز على الهوية الإثنية القبلية، وكونها مهددة بسبب تأثيرات عالمية، وكلها تعني بالأساس الالتزام أكثر بما يعتبره قيم ومصالح اليهود عموما، والإسرائيليين منهم/ بشكل خاص.
وبعد وصول نتنياهو للحكم مرة أخرى عام 2009، بدأ فورا في إجراء تغييرات جدية وعميقة، شملت تغييرات جدية في التوظيف في السلك العام، أو ما يسميه البعض الدولة العميقة، بعد ذلك شرع في تغييرات شاملة في القوانين، وفي برامج التعليم، زيادة حضور الدين والقيم المحافظة في الحيز العام، بما في ذلك في الجيش، والذي تغير تدريجيا بسبب وصول متدينين قوميين ملتزمين تجاه الاستيطان وما يسمونه بسط السيطرة على "أرض إسرائيل"، إلى مراتب قيادية فيه، كما إحداث تغييرات جدية في الجامعات، بما في ذلك من خلال الحركة الشبابية "ام ترتسو"، والتي قامت بملاحقة الطلاب اليساريين والعرب، كما قامت وتقوم بمراقبة المحاضرين ومضامين مساقاتهم، وإحدث تغييرات في توزيع الموارد المالية، وتوظيفات الأجهزة العامة، بما في ذلك في الجهاز القضائي، كما قاد وشرعن تغييرات جدية في الثقافة السياسية السائدة، بحيث أصبح اختيار وسلطة شخص متهم بالفساد وسوء استعمال القوة في الحيز العام، مثل نتنياهو نفسه، مسألة مقبولة وشرعية في إسرائيل، كما ساهم في تغييرات جدية في الثقافة والمؤسسات الثقافية الفعلية، وفي الإعلام أحدث تغييرات جدية، وعلى رأسها إقامة صحف ووسائل اتصال حديثة وحضور يميني فاعل في كل وسائل الاتصال التقليدية والمستحدثة.
ثانيا– تغييرات مركبة
لا أستطيع الاسترسال أكثر في تفصيل التغييرات التي قادها وأحدثها نتنياهو، مع شركائه، بسبب ضيق المساحة، لكنها بالتأكيد شاملة وعميقة وغيرت إسرائيل، بحيث أدخلتها إلى عصر "الجمهورية الثالثة"، التي تكللت في "التغييرات القضائية"، والتي يجري التداول حولها الآن في سياق ما يسمى "خطة ليفين" والاحتجاجات ضدها، ودخول الأطراف إلى مفاوضات برعاية مكتب رئيس الدولة، حول ما يمكن إحداثه من تغييرات، وما يمكن تأجيله، حسب نتنياهو، والعودة إليه تدريجيا مستقبلا.