يروي المصنف والمحقق الشهير فؤاد سزكين قصة حدثت له أيام طفولته، دفعته لأن يعيد التساؤل والبحث في كثير من المسلمات والأفكار الشائعة عن تاريخ العلم، وأصل النهضة الحديثة، يقول: "سمعت من مدرّستي في الأسابيع الأولى من دخولي المدرسة الابتدائية، قولها: إن العرب كانوا يعتقدون أن الأرض محمولة على قرني ثور للأبد. وعرفت في كتب المدرسة نفسها تعريف النهضة الأوروبية الحديثة بأنها استمرار للعلوم الإغريقية، دون إشارة لأي دور للعرب والمسلمين في تاريخ التراث البشري، اللهم إلا أن يضطر من حين إلى حين لتوسطهم بترجمة الكتب الإغريقية إلى العربية، ومنها إلى اللاتينية".
يوضح سزكين أنه نشأ في بيئة كان يسيطر عليها هذان الأمران: النظر باحتقار لتراث العرب العلمي، واعتبار النهضة الحديثة منتجاً أوروبياً خالصاً. إلى أن التقى بالمستشرق الألماني هلموت ريتر عام 1943، الذي أخبره بأن عليه أن يتخصص في علوم الطبيعيات والرياضيات؛ حيث كان العرب رياضيين كباراً لا يقلون مرتبة عن أكبر الرياضيين الأوروبيين، كالخوارزمي، وابن يونس، وابن الهيثم، والبيروني، وغيرهم. يقول سزكين: "اندهشت كثيراً وشعرت بالحيرة والارتباك، وفي الطريق إلى البيت وفي السرير، شغلني وأقلقني هذا الكلام، وبين ما تربيت عليه في المدارس خلال نشأتي، فقضيت الليل دون نوم، كنت أنتظر الصباح لأرجع إلى أستاذي لأسأله وأسأله".
ومنذ تلك اللحظة أخذ سزكين على عاتقه مواجهة هذه الأفكار الشائعة المضللة عن تاريخ العلم في الحضارة الإنسانية، فأصبح أحد كبار العلماء المتخصصين في دراسة تاريخ العلوم العربية والإسلامية، وأسس المراكز العلمية المتخصصة في هذا المجال، في ألمانيا وغيرها من العواصم الأوروبية والعربية.
على الرغم من أن هذه الحادثة وقعت قبل عقود طويلة، إلا أن تلك النظرة المشوهة المشوشة لتاريخ العرب وتراثهم العلمي والثقافي لا تزال مستمرة إلى اليوم، ليس في المجتمعات الأوروبية فحسب، بل حتى بين أبناء العرب أنفسهم، وربما أكبر سبب في ذلك هو الجهل بهذا التراث، والابتعاد عنه، وكثرة الوسطاء والدعاة الذين وظفوا الحديث عن المنجزات العربية العلمية بأسلوب دعوي وعظي يُستخدم لأجل التمجيد وإذكاء العواطف، وترويج قصص الإعجاز العلمي في سياق المواجهة مع الغرب، مما أفقد الحديث عن مثل هذه المواضيع رصانتها، ومكانتها التي ينبغي أن تكون، وهو حقل تاريخ العلوم والحضارات، من أجل فهم أعمق لتراثنا وتاريخنا، لأنه جزء منا، ونحن جزء منه، فنحن ننتمي لفضاء الحضارة الإنسانية نؤثر ونتأثر، ونضع اللبنات في تاريخ العلم، ومسيرة الحضارة، وأول طريق للنهوض أن نعرف ذواتنا وأنفسنا، وموقعنا في التاريخ والحاضر.