عشرونَ يوما كانت كافية لكي ينجز فرانز كافكا روايته "التحوّل" فيما بين 17 نوفمبر/ تشرين الثاني و7 ديسمبر/ كانون الأول سنة 1912، بحسب رسائله إلى خطيبته فيليس باور، وكان قبلها بشهرين قد أنجز في ليلة واحدة نصّ "الحكم" وهي ليلة 22 و23 من سبتمبر/ أيلول والعهدة على رسائله المشار إليها آنفا.
طالما شوّشّتْ علينا وفرةُ الكتاباتِ النقديّة المتناسلة حول نُصوصٍ روائيّة طبقتْ شهرتها الأفاق، فحالتْ بين انطباعاتنا الخاصّة وبين تلك الروايات، ومنها بلا منازع رواية "التحوّل" وما كُتِبَ عنها وعن صاحبها من لدن فالتر بنيامين وبورخيس وجيل دولوز وجورج باتاي وميلان كونديرا على وجه التحديد، حتى غدت الكافكاوية عقيدة جمالية في السّرد، رواية وقصّة قصيرة.
ما يرسخُ على سبيل الظنّ أنّ هكذا نصوص متداولة عالميا، استهلكتها القراءة عن بكرة أبيها، ولكن حين نعودُ إليها لنكتشفها من جديد، وقد تَبَايَنَّا معها مسافة في الزّمن والوعيِ، تُفاجئنَا أشياءُ منفلتة، لم نكن قد انتبهنا إليها سابقا، وبذا تعزّزُ هذه الأعمال الكلاسيكيّة من قوّتها الغريبة على التجدُّد، وَأَلَقِهَا في تصدير المزيد من الانطباعات اللامألوفة، وهي لذلك تُعدُّ مصادر كونية من مصادر السّرد التي لا ينقطع امتدادها خارج حدود زمنها، إذ بقدر ما هي كلاسيكيّة، بقدر ما هي راهنيّة ومستقبليّة في آن.
ما قد يسترعي انتباهك هذه المرّة في رواية "التحوّل"، منذُ أوّل وهلةٍ، هو إيقاعها غير المُلْتَفَتِ إليه فيما سبقَ، وضمن تواترِ هذا الإيقاع وتماوجه، لا بدّ أن تثيركَ هارمونية الأصواتِ – رجعا وصدى، هسيسا ودويّا - ، ذات النّسق الموازي أو الضّمني للنص، فيما يشبه مدارا قاعديّا، تتداعى فيه الحكاية من خلال تصاريف مُحْكَمَةٍ، بدءا بِوَقْعِ قطراتِ المطرِ على توتياء حافّة النّافذة، المرفقة بأزيز التقلبات الفاشلة للسيّد "غريغور" - المنتدب التجاري الجوال- أو سلسة اهتزازه على السّرير، وكذا صرير انزلاقات هذا الأخير، زِدْ على ذلك تكتكات السّاعة في الجوار، ثمّ رنينها المنبّه إيذانا بتوقيت السّابعة إلا ربعا، وإثر ذلك تشرعُ طَرقات أمه على باب غرفته وتتوالى، فيكون ردّهُ محض زقزقات من كلامه الرّاطن المتحوّل، ويعقب ذلك جرجرة قدمي أمّه على الأرضية، وفي حينه يصدح جرسُ باب الشقة، ويدوّي أثرُ سقطة "غريغور" من السرير، كما يسطو الصرير المسموع لحذاءِ مدير الشركة الوافدِ، مُشْفَعا بصفيقِ الأب... كل هذا الصخبِ لا يعدمُ سماعَ حفيفِ تنّورتيْ الفتاتينِ في ركضهما كيْ يجلبا مُصْلِحَ الأقفالِ... وَتَتْرَى الأصواتُ على هذا النّحو وذاكَ، قفزا إلى قرقعةِ فتحِ صندوق الأبِ الفولاذيّ، فضلا عن صرير نقل الخزانة من غرفة السيد "غريغور" وصرير منضدة الكتابة وطقطقات يد الأخت على المائدة، واصطكاك أسنان المستأجرين وهم يتناولون الطعام...
طالما شوّشّتْ علينا وفرةُ الكتاباتِ النقديّة المتناسلة حول نُصوصٍ روائيّة طبقتْ شهرتها الأفاق، فحالتْ بين انطباعاتنا الخاصّة وبين تلك الروايات، ومنها بلا منازع رواية "التحوّل" وما كُتِبَ عنها وعن صاحبها
هكذا دواليك، يتبادلُ الصّمتُ المُفخَّخُ بالهسيسِ من ناحيةٍ، وضجّة الأشياء من ناحية ثانية، الأدوارَ بمكرٍ محسوب الدقّة والإحداثيات، كما لو في خطاطة كونشرتو موسيقيّة، مرسومة بعناية خوارزميّة فائقة، وصولا إلى الطّفرة البهيجة والمأساوية في آنٍ، التي تزهرُ فيها شمسُ النصّ (في عزّ ضبابيّة شهر مارس/آذار)، عندما تشرعُ الأختُ في عزفِ كمانها في المطبخ فيستقدمها الأبُ لكي تعزف أمام المستأجرين في الصّالة، وهنا يكشفُ النصُّ عن ثقبه الأسود.
بعدئذٍ يتوتّرُ منحى الأصوات ويحتدُّ في اضطرامٍ فجائعيٍّ واحتدامٍ جنائزيٍّ، مع ضربةِ قدمِ أحدِ المستأجرين على الأرضية الشّبيهة برعدٍ، وانتحاب الفتاة، ورنّة سقوط الكمانِ من يد الأمّ، وانتهاء بدقّاتِ ساعةِ البُرْجِ مُعْلِنَة الثّالثةَ صباحا، وهي لحظةُ موتِ الحشرةِ التي تحوّلَ إليها السيّد "غريغور".
ثمَّ اختتاما مضاعفا، إِذْ تَمْهُرُ الخادمةُ مدارَ أو هارمونيّة الأصوات بدويِّ صَفْقِهَا أبواب الشقّة بشكلٍ رهيبٍ وهي تغادرُ متذمّرة (صفقُ الأبوابِ هنا يتردّدُ طويلا بلا نهاية).
وفي غمرة هذا الصّفْقِ اللانهائيّ، لا يمكن أن يتلاشى انطباعٌ مزدوجٌ بين حزمة أصواتٍ وصورةٍ، نوردهُ في حاشيتيْن:
- حاشية أولى: ثمّةَ أصواتٌ التزمَ النصُّ بعدمِ توصيفها، وآثرَ أن تُسمع ضمنيّا في محمول التّسمية، كما في كلمة "القطار" في نهاية الرّحلة، وهي نهاية الرواية.
- حاشية ثانية: في مجرى الأثر المحبوك لرجع صدى الأشياء في مدار النص، إنْ هسيسا أو دويّا، تطفو على السطح صورة المرأة التي اقتطعها السيّد "غريغور" "حديثا من مجلة وجعل لها إطارا جميلا مذهبا وتبدو فيها سيدة تضع قبعة ووشاحا للرقبة، كلاهما من فرو، وهي مستقيمة جيّدا في جلستها، تمدّ نحو الرّائي أسطوانة جسيمة من فروٍ أثيثٍ، هي كمٌّ مستقلٌّ ينحشرُ فيه ساعدها بأكمله". الصورة التي حاول "غريغور" حمايتها قدر المستطاع عندما كانت أمه وأخته تفرغان غرفته من الأثاث. (هل الصورةُ تذكّره بأمينةِ الصندوق في متجرِ بيعِ القبعاتِ التي حاول كسبَ حبّها إلا أنه تباطأ كثيرا؟).
بالإمكانِ تأويلُ الصّورة تأويلا سياسيّا (طبقيّا) أو غيره، لكن ما يهمُّ تسجيله هو مآل الصورة التي انتظرتنا عودتها ولو على سبيل الإيحاء في حافّة النّصّ ولم يحصل ذلك!
مُجْمَلُ الظنِّ، أنّك قرأتَ نصّ "التّحوّل" هذه المرّة، كما لو تصيخُ السّمْعَ لموسيقى فيلمٍ سينمائيٍّ مُرعبٍ، أَحْسَبُ أنّ عنوانهُ هو "ضباب مارس: كونشرتو المسخ".