ليس بين العرب من خلافات التاريخ ونزاعات الماضي ما يُعادل نذرًا يسيرًا مما بين دولٍ تَدفنُ الآن ما يحفل به ماضيها من صراعات راح ضحيتها أعداد لا تُحصى من مواطنيها. يُقدِّم من يدفنون تلك الصراعات ليمضوا في طريقهم نحو مستقبل أفضل، درسًا ثمينًا لمن يريد أن يعتبر. وليس هناك أكثر من العرب حاجةً إلى استلهام هذه الدروس في مُستهل ما يُرجى أن تكون مرحلةً جديدةً بعد قمة جدة التي خلقت أملاً وتفاؤلاً.
غير أنه لتعزيز هذا التفاؤل، وتثبيت ذلك الأمل، ربما تُفيد متابعة عملية دفن الصراع التاريخي الرهيب بين اليابان وكوريا الجنوبية. صراعُ يقل مثله في التاريخ الحديث لهول ما حدث فيه، ويتضاءل بل يتقزَّم بجواره أي صراع بين بلدين عربيين.
كان بين اليابان وكوريا الجنوبية ما ينطبق عليه القول المأثور "ما صنع الحداد" في إشارة إلى أدوات قتال قديمة تُصنع من حديد مثل السيوف والسهام والحراب والخناجر وما يشبهها. ولكنهما يُقدمان اليوم نموذجا لما يمكن تسميته دفن صراع تاريخي لم تكن تسويته على مراحل منذ 1945 كافيةً للخلاص من تداعياته، وتوفير طاقات تُهدر في استحضاره والتصرف أحياناً بمقتضاه على حساب معالجة قضايا تتعلق بالمستقبل.
كان بين اليابان وكوريا الجنوبية ما ينطبق عليه القول المأثور "ما صنع الحداد" في إشارة إلى أدوات قتال قديمة تُصنع من حديد مثل السيوف والسهام والحراب والخناجر وما يشبهها. ولكنهما يُقدمان اليوم نموذجا لما يمكن تسميته دفن صراع تاريخي
عقل كبير وشجاعة منقطعة النظير هما ما كانا لازمين للتصدي لمهمة بدت لكُثر مستحيلة لعقود طويلة. وقد توافرا في رئيس وزراء اليابان وكوريا الجنوبية الحاليين فوميو كيشيدا وهان دوك سو، فاستطاع كلُ منهما العبور على جسر من الأشواك ليلتقيا بطوكيو في مارس/آذار ثم في سيول الشهر الماضي.
مهمة دوك سو أصعب بكثير، إذ وقع على بلده ظلم كبيرو وعانى شعبه تحت الاستعمار الياباني ويلات لا نظير لها إلا في حالة استعباد الغرب أعدادًا مختلفا على تقديرها من الأفارقة، ومحاولة محو هوية بعض البلدان التي أُخضعت للاستعمار الفرنسي.
بدأت السيطرة اليابانية على كوريا في منتصف القرن التاسع عشر، وتطورت إلى احتلالٍ كامل عام 1910. ولكن اليابانيين لم ينجحوا في محو الهوية الكورية رغم قسوة الاحتلال على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد, وفداحة الاستبعاد الذي ازداد خلال الحرب العالمية الثانية عندما عزَّزت القوات اليابانية وجودها، فاحتاجت إلى عمالة محلية وترفيه عن جنودها. فكان العمل القسري الذي حدث مثله في الاستعمار الإنجليزي لمصر والاستعمار الفرنسي للمغرب. وكان أيضًا الاستغلال الجنسي على نطاق واسع يندر مثله في التاريخ الاستعماري.
آلامُ بقيت في ذاكرة الكوريين جيلاً بعد جيل منذ حصولهم على الاستقلال عقب هزيمة اليابان عام 1945. فقد أحدثت تلك الهزيمة تحولاً نوعيًا وأدخلت اليابان مرحلة جديدة تمامًا، إذ أدانت تاريخها الاستعماري، وقلَّصت جيشها وتخلت عن القوة العسكرية الهجومية، وتحولت من إحدى أكثر الدول عنفًا إلى نموذج يُحتذى في الإيمان بالسلام، والإصرار على عدم تكرار تجربة مُرة سبَّبت لها ولبعض جيرانها آلامًا مُّبرحة.
كانت مهمة كيشيدا أسهل عندما تحرك لإنهاء الصراع التاريخي مع كوريا الجنوبية، ودفن الماضي بكل آلامه. ولكنها لم تكن سهلةُ بالمطلق، بسبب حساسية قطاعات يُعتد بها من النخبة والرأي العام في اليابان تجاه ما يسميها الكوريون "اعتذارات كاملة" وتعويضات كافية
كانت مهمة كيشيدا أسهل عندما تحرك لإنهاء الصراع التاريخي مع كوريا الجنوبية، ودفن الماضي بكل آلامه. ولكنها لم تكن سهلةُ بالمطلق، بسبب حساسية قطاعات يُعتد بها من النخبة والرأي العام في اليابان تجاه ما يسميها الكوريون "اعتذارات كاملة" وتعويضات كافية.
لم يكتفوا باعتذار مقتضب عام 1992 على لسان المتحدث باسم الحكومة اليابانية عن اعتداءات جنسية. وكذلك الحال بالنسبة إلى تعويضات قيمتها 800 مليون دولار قدمتها اليابان عام 1965 في صورة منح لا تُرد وقروض مُيسرة عند إقامة علاقات ديبلوماسية بين الدولتين.
ومع ذلك وجد كيشيدا طريقة فاعلة لكسر ما بقى من حواجز عبر السعي إلى كسب قلوب الكوريين وعقولهم. فبدأ زيارته إلى سيول بالتوجه إلى المقبرة الوطنية حيث يرقد محاربون كوريون قدامى ووضع الزهور عليها، وأعلن ما معناه أن قلبه يتألم أشد الألم من أجل الكوريين الذين عانوا تحت الحكم الاستعماري الياباني.
وبالتوازي مع هذا التوجه العاطفي، أدار مع نظيره الكوري عملية دفن الماضي بالطريقة العملية الأكثر نجاحا. ونجد في تصريحاتهما أهم مقومات هذه الطريقة، مثل التبادل الصادق لوجهات النظر، وبناء الثقة وتعميقها، والسعي إلى إزالة المخاوف.
"روشتة" تبدو بسيطة، ولكن العمل بموجبها ليس سهلاً ما لم تتوافر إرادة قوية نابعة من عقل كبير ومسنودة بشجاعة بالغة. الصدق في عرض الموقف يمختلف جوانبه أقصر الطرق لبلوغ غاية صعبة مثل دفن ماضي مؤلم. وكلما كان الصدق متبادلاً قصر الطريق إليها. فالصدق يخلق أجواء تساعد على تراجع الشكوك، ويتيح بالتالي بيئة ملائمة لبناء الثقة التي تُعد المفتاح الذي لا نظير له لتحقيق أي تقدم. الثقة تفعل، حال وجودها، فعل السحر. ولهذا، تُعد أساس أية علاقة ناجحة على المستوى الشخصي والمهني والسياسي، وداخليًا ودوليًا على حد سواء.
وعندما تُبنى الثقة لابد من الحفاظ عليها، وهو ما لا يتيسر بدون الانتباه إلى المخاوف المتبادلة والإسراع لإزالتها. وهذا ما بدأه كيشيدا ودوك سو في لقائهما الثاني بالاتفاق على أن يُتاح لكوريا الجنوبية الوصول الحر إلى موقع فوكوشيما الياباني النووي لإنهاء مخاوفها من أي تلوث إشعاعي في المياه التي يجري تصريفها.
إذا كان ممكنًا دفن ماض شديد الإيلام إلى هذا الحد، فهل يتعذر الردم على ماضٍ أقل إيلامًا بما لا يُقارن بين يعض الدول العربية؟ سؤال منطقي يحمل في طياته الجواب. لم يعرف العرب استعمارا من جانب إحدى دولهم لغيرها. عرفوا استعمارا أوروبيا أخضع معظم بلادهم ثم تحررت منه. لم يهنأ نظام صدام حسين باحتلال الكويت، الذي كان بداية عملية تاريخية أدت إلى سقوطه.
إذا كان ممكنًا دفن ماض شديد الإيلام إلى هذا الحد، فهل يتعذر الردم على ماضٍ أقل إيلامًا بما لا يُقارن بين يعض الدول العربية؟
والحال أن كل ما في ماضي العرب خلافات سياسية عادية أنتج بعضها صراعات أغلبها منخفضة الحدة، أو تبدو خارج العقل والمنطق حين يُسترجع في أحدها ماضي طوله 14 قرنًا ويزيد. وهذا صراع بين قطاعات من بعض المجتمعات العربية في المقام الأول. ويحتاج تجاوزه إلى إصلاح ثقافي وديني-مذهبي ينتظر من يطرح مبادرة شجاعة لتحقيقه. وربما تساعد الأجواء التي خلقتها قمة جدة في توفير ظروف مناسبة لمعالجة هذا الخلاف، بالتوازي مع مصارحات عربية متبادلة لبناء الثقة في كل موضع افتُقدت فيه، والعمل لتعميقها، والسعي إلى إزالة المخاوف المتبادلة. وليس هذا كثيرا أو عسيرا، مادامت طوكيو وسيول نجحتا في ما هو أشد صعوبة ومشقة.