وول سوينكا في تورينو: أوروبا نسيت دروس التاريخhttps://www.majalla.com/node/292741/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%88%D9%88%D9%84-%D8%B3%D9%88%D9%8A%D9%86%D9%83%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%86%D9%88-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%AA-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE
تورينو/ إيطاليا: كان موضوع معرض تورينو الدولي للكتاب (من 18 إلى 22 مايو/أيار) الماضي، هذا العام، هو "عبر المرآة"، تكريما للكون الخيالي الفسيح الذي ابتدعه لويس كارول، لدعوة القراء من خلاله الى سبر عوالم جديدة، بعين يقظة للحاضر، ولكن برؤوس محشورة بين صفحات الكتب. افتُتِحَ المعرض بكلمة للصحافية والكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش، وكان برنامجه غنيا بالاجتماعات والمواعيد والمناقشات والعروض واللقاءات مع كتاب إيطاليين وعالميين.
كان المعرض أيضا فرصة للاحتفال ببعض المناسبات المهمة، مثل الذكرى الخمسين لوفاة ج. آر. تولكين، والذكرى المئوية لميلاد إيتالو كالفينو والذكرى المئوية الثانية لنشر رواية "فرانكنشتاين" لماري شيلي، وإعلان أسماء المتأهلين للتصفيات النهائية لجائزة "ستريغا" الأوروبية، التي أطلقت في عام 2014 لمناسبة الرئاسة الإيطالية لمجلس الاتحاد الأوروبي، وهي مرادفة للجائزة الأدبية الإيطالية التي تحمل الاسم نفسه. يتنافس على الجائزة هذا العام خمسة كتّاب حصلوا على اعتراف مهم في بلدانهم الأصلية وترجمت أعمالهم ونشرت أخيرا في إيطاليا. الكتب الخمسة المرشحة هي:"V13" لإيمانويل كارّيه، "رومبو" لإستر كينسكي، "أذن كييف" لأندره كوركوف، "ساحرة" لجوهان ليك هولم، و"الحجر والظلّ" لبرهان سونماز.
من أبرز الضيوف المنتظرين في المعرض، كان الكاتب النيجيري وول سوينكا الحائز جائزة نوبل، حيث قدم روايته الجديدة، بنسختها الإيطالية، "وقائع من أسعد أرض في العالم"، الصادرة عن دار "لا نافِهْ دي تيسيو" للنشر.
كل ما يقال في الغرب عن مستقبل أفريقيا قاله أولئك الذين تحملوا ولا يزالون يتحملون مسؤولية كبيرة جدا عما يحدث هناك
البروف
وول سوينكا، المولود عام 1934 في نيجيريا، التقى القراء والصحافيين وهو بكامل نشاطه وكأنه فتى في مقتبل العمر، نظرة ثاقبة وثقة كبيرة بالنفس. الكتّاب الأفارقة من الأجيال اللاحقة يسمونه "العم سوينكا"، أو "بروف"، باختصار لا يخلو من الإجلال لكلمة "بروفسور"، لأنهم نشأوا جميعا على كلماته في نيجيريا وفي مختلف الجامعات الأفريقية والعالمية، وهي كلمة مختارة بعناية، إذ يكفي للدلالة عليها الاستماع إلى لغته الإنكليزية المتقنة والمفعمة بالحيوية. ثم كان أول أفريقي ينال جائزة نوبل في الأدب، في عام 1986، التي مثلت إعادة اعتبار جزئي للقارة الأفريقية، على الرغم من عدم التكافؤ بين قيمة الجائزة المعنوية وما عانته القارة برمتها على أيدي المستعمرين الأوروبيين.
أكمل سوينكا دراسته الجامعية في إبادان وفي ليدز بإنكلترا، حيث حصل على درجة الدكتوراه في عام 1973. بعد سنتين من العمل في المسرح الملكي في لندن ككاتب مسرحي، عاد إلى نيجيريا في عام 1960، حيث بدأ بتدريس الأدب والمسرح في جامعات عدة وأسس فرقة "أقنعة 1960" المسرحية. في عام 1964 أسس فرقة "تياترو أوريسون" Teatro Orisun التي عرض معها أيضا بعض أعماله الخاصة. في عام 1965 نشر روايته الأولى باللغة الإنكليزية، "المفسرون".
خلال الحرب الأهلية النيجيرية، زجّ به في السجن من عام 1967 إلى عام 1969 بسبب مقال يدعو إلى وقف إطلاق النار. وقد روى تجربته في الحبس الانفرادي في رواية "مات الرجل".
أثبت وول سوينكا وجوده في أفريقيا والغرب من خلال المسرح والشعر أكثر من الروايات والمؤلفات الفكرية. على وجه الخصوص، اشتهر بإعادة تقييم المسرح النيجيري التقليدي و"أوبرا يوروبا الشعبية". كتب أكثر من عشرين مسرحية وكوميديا، وقام بتكييف مسرحية يوربيديس "الباخوسيات"، و"أوبرا القروش الثلاثة" لبرتولد بريخت، و"الزنوج" لجان جينيه في سياق أفريقي. تشمل أعماله المسرحية: "الأسد واللؤلؤ"، "مجانين واختصاصيون"، "الموت وفارس الملك"، "رقصة الغابة"، "الطريق"، "حصاد كونجي". ومن بين مجموعاته الشعرية: "إيدانري وقصائد أخرى"؛ "مكوك في القبو"؛ "أوغون أبيبيمان (1992)؛ "أرض مانديلا وقصائد أخرى".
درّس في العديد من الجامعات، بما في ذلك جامعات يال وكورنيل وهارفرد وشيفيلد وكامبريدج، وهو عضو في أرقى الجمعيات الأدبية الدولية. حصل على العديد من الجوائز حول العالم وعلى جائزة نوبل للآداب عام 1986. ومع ذلك، لا يعتقد سوينكا أن جائزة نوبل لعبد الرزاق قرنه، التنزاني الأصل الذي تلقى تعليمه في إنكلترا مثله، ترجع إلى الحاجة إلى تدارك ما غفلت عنه الأكاديمية السويدية. يقول في هذا الصدد: "كنت سعيداً جداً بعودة الجائزة إلى أفريقيا. لا أؤمن بالحصص الجغرافية، لأن القراء الغربيين الذين تمثلهم الأكاديمية السويدية بدأوا يلاحظون الثراء الكبير للإنتاج الفني في القارة الأفريقية، وليس فقط في الأدب. تتمثل مهمة المؤسسة في مفاجأتنا وتثقيفنا عالمياً لندرك أن العجائب موجودة في كل مكان".
أسعد أرض
"وقائع من أسعد أرض في العالم"، هي الرواية الثالثة للكاتب الكبير، الأولى منذ ما يقرب من خمسين عاماً. وخلال هذه الأعوام الطويلة، كانت هناك مسرحيات وقصائد ومذكرات و"قصيدة علمانية ﻠتشيبوك ولياه"، حيث يلتقي فيها مانديلا بشكل افتراضي ﺒ "لياه شاريبو"، إحدى الطالبات اللواتي اختطفهن "بوكو حرام" ولم يُطلق سراحهن مطلقاً. نيجيريا المتخيلة للرواية الجديدة يسكنها دعاةٌ عديمو الضمير ورجال أعمال وسياسيون فاسدون متورطون في تهريب الأعضاء لاستخدامها في طقوس غامضة. في الكتاب الذي يهيمن عليه التوثيق التاريخي والسخرية السوداء، ينجلي التشاؤم المتأصل للوضع المتأزم في بلده، بشذرات من الأمل، مما يدل على إيمانه العميق بالتنمية والاستقرار.
ولكن لماذا هذه الرواية الآن؟ ما الذي تغير في إلهامه؟
يجيب سوينكا في حوار أجرته معه صحيفة "الكورييري ديلا سيرا" الإيطالية المعروفة: "لقد اكتسبت كل التجارب المضطربة في السنوات الأخيرة، وتجربة الحبس، وازدياد التناقضات في المجتمع، والتجريد من الإنسانية أو الاختفاء التدريجي لما أسميه الإنسانية، بُعداً يتطلب أداة أخرى لنقل مخاوفي وقلقي.لست روائياً، الرواية ليست مجالي المفضل. لكنني أدركت أنني بحاجة للعودة إلى أداة التعبير هذه لتعكس هواجسي. نيجيريا ليست 'أسعد أرض في العالم'، كما يقول العنوان بسخرية، لكن تقرير السعادة العالمي الذي يقيس السعادة في بلدان العالم، قبل بضع سنوات، وضعنا في القمة. كيف يكون ذلك ممكنا؟ عندما قرأت الخبر لم أصدق عيني. أتذكر أنني صرخت: إذاً، أنا في البلد الخطأ، ويجب أن أذهب لأجد نيجيريا هذه، لأنني لا أعرفها. في الوقت نفسه، كان من دواعي السرور أن نرى أن شخصاً ما، في مكان ما داخل هذه الحدود، يختبر شكلاً من أشكال السعادة".
يرى بعض النقاد أن "وقائع من أسعد أرض في العالم"، هي رواية يصعب تحديدها من وجهة نظر النوع: إنها هجاء وقصة بوليسية ومؤامرة، ولكن قبل كل شيء إدانة لمجتمع يسوده الفساد، والأصولية، والعنف، والتعصب. كيف يمكننا قراءتها؟
"لا يفاجئني كثيراً أنها تُقرأ كقصة بوليسية - يجيب سوينكا- "لأنني كنت أرغب دائماً في كتابة واحدة وهذه القصة منحتني الفرصة. لكن بخلاف ذلك يصعب شرحها. يبدو الأمر كأنك تجد نفسك في بيئة تظلمك، وهي تربكك إلى درجة أنك لا تعرف حتى من أين تبدأ. تسأل نفسك: ما الجانب الذي يجب أن أتناوله أولاً؟ الفساد المادي؟ الازدراء المتزايد للحياة البشرية؟ اللامبالاة تجاه قيم الصداقة والعائلة الأساسية؟ أجد صعوبة في تنحية ما لا يمكنني تحمله في شأن الواقع المحيط بي، على المستوى السياسي والاجتماعي والعدالة والحرية والعنف، باختصار، على المستوى الإنساني برمّته، لأفعل ما أريد حقاً أن أفعله. هذه هي الطريقة الوحيدة التي أحصل بها على راحة البال لأكرّس نفسي لما أحبه. أحتاج إلى الأشياء من حولي حتى تكون على الأقل مقبولة من أجل الكتابة".
هو مقتنع تماماً بأن مسؤوليته كمواطن ملتزم الدفاع عن الحرية هي ألا يفقد هذا الصوت. وهو صوت حزين لأن "المعنى الإنساني في طريقه إلى التلاشي". وعما يمكن أن تجد الأجيال الجديدة في أعماله، يجيب: "أتمنى منهم أن يحللوا بدقة أكبر السلطة المكتسبة من جهة إضفاء الطابع الديموقراطي على المعلومات والسلوك والأفكار، وأن يتعلموا تحقيق التوازن بين ما أسميه 'ثقافة الإنترنت' وفن السرد. آمل أن يفهموا أن ليس كل العالم يعتمد على شبكات التواصل الاجتماعي، وأن هناك بديلاً في الثقافة الأبدية للأدب والفن".
أجد صعوبة في تنحية ما لا يمكنني تحمله في شأن الواقع المحيط بي، على المستوى السياسي والاجتماعي والعدالة والحرية والعنف، باختصار، على المستوى الإنساني برمّته
الهجرة وفشل العالم
تعتبر الهجرة اليوم من القضايا الحاسمة، من وجهة نظر سياسية واجتماعية، في أوروبا وقبل كل شيء في إيطاليا. يرى سوينكا أن هذه الظاهرة هي "تجسيد للفشل الدراماتيكي والكامل للقيادات الأفريقية. وهذا ينطبق على جميع دول القارة. لو أن إدارة الموارد تمت بشكل جيد، وخلقت فرص العمل، وتطورت المبادرات والأشكال الإنتاجية الأخرى في جميع مجالات الحياة، لما رأينا أجيالنا الشابة تتوه في الصحراء أو تقضي غرقا في البحر الأبيض المتوسط. إنها مشكلة يجب أن توقظ ضمير الحكام وتدفعهم إلى الاتحاد لإيجاد حل مشترك. وعليّ أن أضيف يبدو أن الدول الأوروبية قد نسيت الدروس التي علمها إياها التاريخ أيضا. من الواضح أن الهجرة الأفريقية تنطوي على الكثير من كراهية الأجانب والتمييز، مقارنة بالترحيب المنظم والداعم الذي استوعبت به أوروبا اللاجئين القادمين من أوكرانيا. ثم علينا ألا ننسى أن هذا النوع من الفظائع التي ترتكبها روسيا الآن في أوكرانيا، مستمرة منذ عقود في القارة الأفريقية. وقد ساهم هذا أيضا في ظاهرة الهجرة. ويتعين على أوروبا أن تتحمل مسؤولياتها لأنها لم تسهم في "تخلف" أفريقيا فحسب، بل قامت أيضا بتوجيه الطاقات الإبداعية التي تساهم في اقتصاد أي دولة، إلى خارج مواطنها الأصلية. بعض الهجرات التي نشهدها اليوم هي أثر بعيد للاستعمار والسلوك الأوروبي في القارة الأفريقية. لذلك يجب أن يجتمع الطرفان معا، وحتى لو استمرا لمدة عام كامل، أن يجلسا ويتناقشا ويجربا ويحاولا ويفشلا، ليخلقا الظروف المواتية في القارة الأفريقية، وليمنحا الفرصة للموارد البشرية، بدلا من أن تُهدر كما حدث حتى الآن.
شارك سوينكا مع شخصيات كبرى مثل مانديلا الحلم العظيم بالنهضة الأفريقية. إنما يبدو الأمر كأنه وعد لم يتحقق. وعن نظرته إلى مستقبل أفريقيا يقول: "كل ما يقال في الغرب عن مستقبل أفريقيا قاله أولئك الذين تحملوا ولا يزالون يتحملون مسؤولية كبيرة جدا عما يحدث هناك. صحيح أن أفريقيا هي وعد فاشل. لكن لا يمكنني الإجابة إلا بشكل شخصي، في ما يتعلق بحلمي وحلم جيلي. كان لدينا حلم كبير وفشل. حتى اليوم، هناك العديد من الشباب الذين يخرجون للدراسة، ليصبحوا محترفين، والذين يختارون لاحقاً العودة إلى ديارهم لمحاولة منح فرصة للنهضة الأفريقية. أنا متأكد من أنه في غضون خمسة عشر عاما تقريبا، ستصل أفريقيا إلى مستوى من التنمية يعتبره الكثير مستحيلا اليوم".
تسأل صحيفة "الكورييري ديلا سيرا" سوينكا أخيراً: غالباً ما تذكر أورونميلا، إله عرافة اليوروبا، المشهور بروحه المتجولة. هل يمكن أن نعتبره إله المهاجرين؟ إذا طلبنا منه أن يخبرنا بما سيحدث، فماذا يجيب؟
يقول سوينكا: "أخشى أنه ليس لديّ مواهب أورونميلا، لكني أعتقد أنه سيستخدم لغة السيد المسيح نفسها: 'كنت غريبا فآويتموني، وعريانا فكسوتموني، ومريضا فزرتموني، وسجينا فجئتم إلي. كلما عملتم هذا لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه".