أليس نيل في "باربيكان": الحياة التي صارت خيالاhttps://www.majalla.com/node/292736/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A3%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%86%D9%8A%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D8%AA-%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%84%D8%A7
لندن: ذهبت إلى "مركز باربيكان الفني" بلندن لرؤية صورة أندي وارهول وهو نصف عار. لم يكن ذلك سوى ذريعة لرؤية معرض الرسامة الأميركية أليس نيل (1900 ــ 1984) الذي يضم لوحة تُظهرها عارية وهي في سن الثمانين. كان لديها دائما ما تقوله عن نسويتها وقيمها الإنسانية وشجاعتها في تحدي مجتمع انهمك في استضعاف أقلياته.
رسمت نيل صورا رمزية باسلوب تعبيري تجريدي يقترب ببساطته من فن "البوب". ذلك هو مصدر إعجابها بوارهول الذي كان يعتبر العري تهديدا لوجوده. تستحق نيل مكانتها في المشهد الفني الأميركي المعاصر. فهي مناضلة عن طريق الفن. كان دفاعها عن الأميركيين من أصل أفريقي مثاليا للكشف عن شخصيتها ومصادر إلهامها الفني.
لوحات نيل تُظهر تمكّنها، لا على مستوى الحرفة الفنية التي حاولت أن تزيح كآبتها الأكاديمية وتهبها نوعا من الخفة فحسب بل أيضا على مستوى الخبرة الإنسانية التي تشع من خلال عيون الأشخاص الذين رسمتهم
خبرة إنسانية تشع من العيون
لوحات نيل تُظهر تمكّنها، لا على مستوى الحرفة الفنية التي حاولت أن تزيح كآبتها الأكاديمية وتهبها نوعا من الخفة فحسب، بل أيضا على مستوى الخبرة الإنسانية التي تشع من خلال عيون الأشخاص الذين رسمتهم. في هذا لا تضع مسافة بين أصدقائها وأشخاص عابرين لم ترهم إلا مرة واحدة، هي المناسبة التي وقعت تحت تأثيرهم التعبيري. لا يحتاج المرء حين يرى صورهم إلى أن يتساءل "مَن هذا الشخص أو ذاك؟" بالرغم من أن منظمي المعرض استفاضوا في الشرح والتعريف وهو ما يمكن ان يقفز عليه المتلقي الذي يهمه الرسم وأسلوبه أكثر من المعلومات التوثيقية التي تشكل تاريخا مجاورا عاشته أليس نيل باعتبارها ناشطة نسوية وثقافية. مَن رسمتهم ينتمون إلى النخبة الثقافية الأميركية، رسامين وكتابا وسينمائيين ممَن عاصرتهم في "غرينتش فيلدج" بنيويورك، جلسوا بصبر أمامها لساعات طويلة من أجل أن يروا أنفسهم من خلال عيونها.
ثرثرة في محيط الجسد
على مستوى شخصي يبدو العرض سيرة ذاتية. ذلك ما يشكل عنصر نجاح بالنسبة إلى المنظمين الذين سعوا جاهدين إلى التقاط لحظات الذروة في حياة كانت عاشت الرسامة فوضاها بتلذذ بوهيمي. رسمت نيل عام 1926 صورة لزوجها الوحيد، الفنان الكوبي كارلوس إنريكيز وبعده رسمت حبيبها جون روتشيلد في حالات مختلفة. يبدو الأمر أشبه بالثرثرة. "نحن لسنا أجسادنا" رسمت نيل أصدقاءها الرجال في وضعيات كشفوا من خلالها عن أدق تفاصيل أسرار أجسادهم. رسمتهم كأنها قد تواطئت معهم على صنع فضيحة تحت غطاء جمالي. يُذهل المرء حين يرى صورا لأناس مشهورين لم ترسمهم نيل من أجل تخليدهم بل من أجل الكشف عن حياتهم الداخلية.
حياة متخيلة
لكن عرض "باربيكان" لا يتجاوز ما هو ذاتي حين يتحول إلى السياسة التي كانت محركا لحياة الرسامة وهي التي سعت إلى أن تؤكد حضورها وسط مجتمعها الصغير.
هناك لوحات تصور اضرابات البسكويت عام 1936. كانت هناك لافتات في مظاهرات بمنهاتن كُتب عليها "االنازيون يقتلون اليهود" كانت نيل واحدة من المتظاهرين. رسمت نيل وقائع عاشتها. ليس هنا ما هو متخيل. يمكن للرسامة أن تقول "لقد رسمت ما عشته". ويمكن للمتلقي أن يعتبر كل ما يراه خياليا بسبب سحر الرسم الذي يهب الواقع خيالا. فـ "نيل" التي تجمع بين استرخاء الحالة الإنسانية وتوتر انفعالها الشخصي تسمح لصورها بالانفلات من الواقع لتكون صورا متخيلة، يشعر المرء أمامها أنها قادمة من حياة لم يعشها أحد. لوحات أليس نيل تُسعد بالرغم من أنها تصور أحيانا مشاهد تعيسة.
تجمع نيل بين استرخاء الحالة الإنسانية وتوتر انفعالها الشخصي وتسمح لصورها بالانفلات من الواقع لتكون صورا متخيلة، يشعر المرء أمامها أنها قادمة من حياة لم يعشها أحد
قوة الفن والهامش الاجتماعي
على مستوى القراءة التاريخية يمكن القول إن معرض أليس نيل الاستعادي يهبنا فرصة أن نحظى برؤية بانورامية لزمن ومكان محددين، وسط نيويورك في ستينات وسبعينات القرن العشرين. عالم نيل هو عالم الآخرين الذين امتزجت صورهم وأفكارهم وأوهامهم ومشاريع هروبهم من الحياة إلى الفن وبالعكس، بعضها بالبعض الآخر بما يوحي بعزلة مفتوحة على الاحتجاج والنأي بالنفس عن عالم لطخه السياسيون بفسادهم.
دفعت نيل بمجتمع النخبة إلى الهامش لكي تتأكد من حقيقته وتلمس بفرشاتها أصول ألمه ومنجم ضحكته الحزينة.
ولكن ما نراه من رسوم بغض النظر عن وثائقيته يبقى محتفظا بقوة الفن بكل عناصرها. الموهبة والحرفة والخيال. لقد سجلت نيل يومياتها من خلال ما رسمته ولكنها في الوقت نفسه كانت حريصة على انتاج أعمال فنية، يمكن النظر إليها بانبهار بمعزل عن موضوعاتها ومناسباتها. وهو ما دفعني إلى العزوف عن قراءة اللافتات التوضيحية التي وضعها منظمو المعرض لتفسير قيامهم بتجزئة أعمال الفنانة بناء على تجربتها الحياتية ومواقفها السياسية.
بين الفن وخياله
تمكنت أليس نيل من أن تحتل مكانة متميزة وسط فناني "البوب" الأميركي في خضم تراجع القيم الجمالية في الولايات المتحدة وبالأخص في منهاتن. كان وارهول ومن ورائه مؤسسات مالية قد تبنى عددا من الفنانين الفطريين، يقف جان ميشيل باسكيا في مقدمتهم. ذلك جعلها تنحاز إلى مبادئ فن "البوب" التي تعتقد أن وارهول قد خانها. تقترب أحيانا من البريطاني ديفيد هوكني وبالأخص في مواضع الأسرار الإباحية. غير أن ما يجب أن نعترف به أنها استطاعت أن تصنع فنا صعبا يلغي المسافة بين الشخص وخياله. لقد أشبعت مغامرتها نظرا. ما رأته يكفي لبناء عالم يومي مرهف وشديد الحساسية.