أثارت الانتخابات التركية الأخيرة كثيرا من التساؤلات بين السوريين، ومعهم المراقبون، فيما يتعلق بمستقبل اللاجئين السوريين في تركيا، والتدخل العسكري التركي في سوريا، وإمكانية التطبيع مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
ولعلّ فوز الرئيس رجب طيب أردوغان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي جرت في 28 مايو/أيار يسلط الضوءَ على نهج تركيا في كيفية المضي في هذه القضايا الحاسمة.
ولكن لا تزال ثمة شكوك تحوم حول محادثات التطبيع الجارية بين أنقرة ودمشق برعاية روسيا، ومسار هذه المحادثات في خضم المشهد السياسي المتغير، ذلك أن انتصار أردوغان من جانب وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، من جانب آخر، قد تكون لهما تداعيات إيجابية وسلبية على ثقة كل طرف بنفسه وعلى المواقف التفاوضية للأطراف المعنية، الأمرُ الذي يجعل من الصعب التنبؤ بنتائج هذه المحادثات.
لقد نجحت موسكو بعد سنوات من الجهود الدبلوماسية في تنظيم محادثات بين أنقرة ودمشق، بدءا بالاجتماعات التي جرت بين رؤساء المخابرات في كل من تركيا وسوريا، والتي توسعت تدريجياً لتشمل وزيري الدفاع. وعلى الرغم من التأخيرات والتعديلات، وصلت المحادثات مؤخرا إلى مرحلة هامة في موسكو، حين رُفعت إلى مستوى وزيري الخارجية، تزامنا مع بدء الانتخابات العامة التركية. واختتمت آخر جولة بالاتفاق على الحفاظ على اتصالاتٍ رفيعة المستوى والمشاركة في مناقشات فنية لتعزيز العلاقات السورية التركية.
ومع ذلك، لا يزال الطريق نحو اتفاق شامل مليئا بالعقبات بسبب التباينات الكبيرة في مطالب كلا البلدين وترتيب تنفيذها. ومن جانبها، تعطي تركيا الأولوية لتفكيك الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد في شمال شرقي سوريا، وإعادة المهجرين السوريين المقيمين داخل حدودها. بينما يصر الأسد، في المقابل، على انسحاب تركيا الكامل من أراضي سوريا كشرطٍ مسبق لمناقشة مطالب تركيا.
لا تزال ثمة شكوك تحوم حول محادثات التطبيع الجارية بين أنقرة ودمشق برعاية روسيا، ومسار هذه المحادثات في خضم المشهد السياسي المتغير
وعلى الرغم من قرب العهد بهذه التصريحات، فقد حدثت تغييرات كبيرة منذ صدورها. فانتصارات أردوغان الانتخابية أعفته من بعض الضغوطات المحلية. وهو الذي كان أعرب عن حماسه للتعامل مع الأسد في الفترة التي سبقت الانتخابات لتسليط الضوء على التقدم المحرز في إعادة المهجرين السوريين والتصدي لأي رد فعلٍ عنيف محتمل من قاعدته الداعمة.
في المقابل، كان الأسد على دراية تامة بدوافع أردوغان، وتعامل مع الوضع بحذر، وعزم على تعزيز قوته في المفاوضات مع تركيا. وعلى الرغم من الضغط الذي مارستها موسكو عليه، إلا أنه ظل حازما في موقفه المتمثل في عدم مساعدة أردوغان على الفوز في الانتخابات من خلال صفقة محتملة؛ إذ إن الأسد كان يفضل ظهور حكومةٍ معارضة تحلُّ محلَّ أردوغان وتعيد العلاقات مع دمشق وفقا لشروط يحددها نظام الأسد.
أما وقد أمّن أردوغان لنفسه فترة رئاسية جديدة لمدة خمس سنوات، فقد يقوم الأسد بإعادة تقييم استراتيجيته في ضوء هذا الواقع الجديد.
وتشير التصريحات الأخيرة إلى تغيير في موقف تركيا، إذ صرح المتحدث باسم أردوغان بأن المحادثات مع الجانب السوري ستتطلب خطوات واضحةً يتخذها الجانب السوري أولا، وهو ما يمثل تغييرا ملحوظا في الخطاب التركي.
وبينما يعزز فوز أردوغان موقفه، فإن عودة سوريا إلى الجامعة العربية قد تقلل– في الجهة الثانية– من استعداد الأسد لتقديم التنازلات. وبحضوره القمة، قدّم الأسد دليلا قاطعا على إعادة اندماج سوريا في المجتمع العربي، وهو الأمر الذي يقلل من أهمية استعادة العلاقات مع تركيا من حيث كسر عزلة النظام الدبلوماسية.
أما وقد أمّن أردوغان لنفسه فترة رئاسية جديدة لمدة خمس سنوات، فقد يقوم الأسد بإعادة تقييم استراتيجيته في ضوء هذا الواقع الجديد
وفوق ذلك، فإن المشاركة النشطة لتركيا في مناطق الصراع كالعراق وليبيا وسوريا قد وتّرت علاقاتها مع بعض الدول العربية، الأمرُ الذي دفعها إلى البحث عن طرق لموازنة النفوذ الإقليمي المتزايد لأنقرة. وبينما لا يبدو أن هنالك من يدعو الأسد مباشرة لاتخاذ موقف أكثر تحديا ضد الوجود التركي في سوريا، فمن المتوقع أن يتصرف بحذر لتجنب أي تداعيات سلبية قد تطرأ على علاقاته مع الدول العربية.
ويُدخل هذا مستوىً إضافيا من التعقيد على المحادثات الجارية بين أنقرة ودمشق، وهي ديناميّة لم تكن بارزة في الماضي. ومع ذلك كله، تجدر الملاحظة أن الاتجاه المستمر نحو تخفيف التصعيد في المنطقة يمكن أن يحفّز بعض الدول العربية على العمل كوسطاء بين تركيا وسوريا، الأمر الذي قد يؤدي إلى تغيير الوضع في الاتجاه المعاكس.
وتُعَد روسيا حاليا اللاعب الرئيس القادر على مواءمة الديناميات المتحولة وتسهيل التوصل إلى صفقة محتملة الحدوث بين أنقرة وسوريا. ومع ذلك، فإن نجاح موسكو حتى الآن لم يزدْ على جلب الجانبين إلى طاولة التفاوض. وفي حين أن هناك احتمالا لأن يستغل بوتين الواقع الجديد لتحقيق تقدم أكبر، فإن ذلك سيتطلب موارد كثيرة واهتماما كبيرا من روسيا. ومع هذا، لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت روسيا مستعدة لتولي مثل هذا الدور الطاغي في الوقت الحالي، نظرا لتركيزها على الوضع في أوكرانيا.
تُعَد روسيا حاليا اللاعب الرئيس القادر على مواءمة الديناميات المتحولة وتسهيل التوصل إلى صفقة محتملة الحدوث بين أنقرة وسوريا. ومع ذلك، فإن نجاح موسكو حتى الآن لم يزدْ على جلب الجانبين إلى طاولة التفاوض
إضافة إلى ما سبق، من المهم الاعتراف بأنه، حتى لو التزمت روسيا تماما بهذا المسعى، فقد تبرز صعوبات أخرى، منها مثلا أن تحسن علاقات الأسد مع الدول العربية عزز من قدرته على المناورة، وخصوصا مع حلفائه. ويمكن لشبكة الدعم المتنامية هذه أن تشجع الأسد على مقاومة الضغط الذي تمارسه روسيا، ولا سيما عند المطالبة بتسويات كبيرة.
وما لم تتوافق جميع هذه الديناميات المتغيرة تماما، فمن المرجح أن تستمر المحادثات بين تركيا وسوريا باعتبارها مجرد إجراء شكليٍ، إذ تفتقر إلى الرغبة الحقيقية في تحقيق تقدم جوهري يتجاوز الإيماءات السطحية المخصصة للعرض العام.