ينزعج اليمنيون عادة إذا قام أحدهم بتصوير، أو تمثيل، مشاهد مضغ القات ونشرها بطريقة كوميدية ساخرة، فهم يعتقدون أنهم يقومون بشيء طبيعي، مثلهم مثل أي أناس على هذه الكرة الأرضية، يتناولون بعض الكيف بمختلف أنواعه، ويرون أن الكيف اليمني، مع أنه مصنّف عالميا من بين المخدِّرات، أهون صحّيا وأفضل من مواد إدمانية أخرى. يقولون إنّه ليس بمخدِّر وفي الوقت نفسه ليس بمنبِّه عادي، إنّه في منزلة بين القهوة والحشيش، ويختلف في ظواهره وآثاره عنهما.
في كثير من البرامج الساخرة يظهر اليمانيون في جلسات وهم يتناولون أعشاب القات بطريقة هستيرية، خاصة إذا صاحبها عزف العود والطبلة، فتظهر وجناتهم منتفخة بالقات الذي يخزِّنونه فيها. والتخزين، أو التخزينة، هي أكثر كلمة متداولة في اليمن.
ما إن يبدأ وقت الظهر حتى تسمع كثيرا في اليمن هذا السؤال: أين ستخزِّن اليوم؟
قبل انهيار الدولة كانت هناك إحصائيات تقول إن اليمنيين يستهلكون، في المجمل، ما يقرب من عشرين مليون ساعة يوميا في مضغ القات، إذ يقضي 60% من الرجال و15% من النساء، ما يقارب ست ساعات في تناوله، وقيل وقتها إن زراعة القات تستحوذ على 70% من مساحة المزروعات المستدامة وتستهلك 55% من إجمالي المياه المستخرجة لمختلف الأغراض وتوجد 7000 بئر في حوض صنعاء وحدها لهذا الغرض. أمّا الأمراض فلا إحصاء لها ومعظمها كان بسبب استخدام المبيدات الحشرية التي تعمل على تسريع نموه وهو ما يعتبره مختصون بمثابة سموم بطيئة، ويكفي رؤية أجساد اليمنيين وهي تزداد نحولا لنعرف مدى تراكم العوامل الوراثية بسبب هذه الشجرة.
إذا كان الدفاع عن القات في السابق يتم على استحياء في الأوساط الثقافية، بالرغم أن معظمهم يتناوله، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة جماعات شبابية تجاهر بشغفها
في أوّل عدد من مجلة "العربي" الكويتية الشهيرة (ديسمبر/ كانون الأول 1958) كتب الشاعر محمد محمود الزبيري، الملقّب في اليمن بأبي الأحرار، مقالا بعنوان "شيطان في صورة شجرة" قال فيه إن القات "يلتهم نصف عمر الشعب من دون عمل ولا إنتاج ولا تفكير ولا شعور بمسؤوليات الحياة" ووصف حالا ما زال قائما فرأى أن اليمني "لا يهتم بغذائه ولا بكسائه ولا بأي حاجة من حاجات حياته مثلما يهتم بالقات، يسعى للحصول عليه منذ الصباح، وقد يشغله هذا السعي عن توفير الغذاء لنفسه ولأسرته كلّها وليس من النادر أن يستهلك الانغماس في مضغ القات ثروات العائلات الغنية".
كان قد طُرح في إطار الجامعة العربية، في خمسينات القرن الماضي، مشروع تحريم زراعة القات في اليمن "واستغلال المساحات التي يزرع فيها بزراعة البن بدلا منه"، وحاولت حكومة محسن العيني في شمال اليمن منع القات في بداية سبعينات القرن الماضي، وقيل إن ذلك كان بتوصية من وزير التربية والتعليم وقتها أحمد جابر عفيف، ولقد قوبلت المحاولة بالرفض والسخرية إذ تداول كثيرون أن اللجنة المكلّفة بدراسة قرار المنع كانت تتناول القات أثناء مناقشاتها في الاجتماعات. وقد عاد العفيف وأنشأ عام 1992 جمعية لمواجهة أضرار القات، كان من بين أعضاء مجلس إدارتها الرئيس اليمني الحالي رشاد العليمي، كما أنشأ صحيفة أسماها "يمن بلا قات" إلى جانب تأسيس مؤسسة ثقافية لإقامة أنشطة تحد من انتشار تناول هذه الأعشاب.
في جنوب اليمن كان القات ممنوعا ولا يسمح بتناوله سوى يومي الخميس والجمعة وبعد الوحدة اليمنية (22 مايو/ أيار 1990) أغلق مصنع صيرة للبيرة فأنتشر القات بشكل كبير حتى وصل إلى حضرموت التي لم تكن مولعة به من قبل!
وإذا كان الدفاع عن القات في السابق يتم على استحياء في الأوساط الثقافية، بالرغم أن معظمهم يتناوله، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة جماعات شبابية تجاهر بشغفها وعشقها للقات وأهمّها تلك الجمعية التي أنشأها الشاعر الفنّان مروان كامل والتي خفّ نشاطها بعد هجرته إلى القاهرة لدراسة الموسيقى، وما لوحظ في نشاط هذه الجمعية هو حدّيتها في الرد على كل من يتعرّض للقات بالنقد أو السخرية، حتى إنها ابتكرت مناسبة سنوية أسمتها "عيد الغُصن"، ولهذا صار مضغه تقليعة لدى الأدباء والفنّانين من الشباب فانتشرت المصطلحات المعنية بالجلسات الخاصة كالساعة السليمانية وطبّ النفوس، وهو عنوان كتاب للباحث الفرنسي جان لامبيرت، كما ارتفع شعار: اعطني القات وغنِّ؛ مع أن الغناء، أو الموسيقى، في حال كهذا يظل محصورا بين آلة العود والطبلة، وهما الآلتان المناسبتان لجلسات كهذه، وكان في السابق قد ظهر من ينظّر لمسرح المقيل، حيث قُدِّمت مسرحيات محدودة، بحضور الشاعر عبدالعزيز المقالح، أثناء تناول القات.
تقول سيرة ابن سينا إنّه كان يتناول نبيذا صلبا كلّ ليلة ليساعده على السهر والتأليف، لكن هذا العالم الكبير في الطب والفلسفة لم يعش أكثر من سبعة وخمسين سنة
يظن أدباء وفنّانون أن القات يمنحهم التركيز وأنهم يستطيعون معه إنجاز الكثير من الأعمال المهمّة، وهي مسألة محلّ نقاش، إذ أن المنجز الأدبي والفني في اليمن لا يبرهن على وجود دور مهم لهذه الأعشاب في تطوّره. فهو (من خلال تجربة ومعاينة خبرة)، إذ يشحذ الطاقة العصبية نحو موضوع ما فإنّه سرعان ما يشتت الاهتمامات ومع الوقت يعطب عمل الدماغ الطبيعي.
وهو عطب يصيب كل حالات الإدمان، فسيرة صاحب "القانون في الطب" ابن سينا (980- 1037م) تقول إنّه كان يتناول نبيذا صلبا كلّ ليلة ليساعده على السهر والتأليف، لكن هذا العالم الكبير في الطب والفلسفة لم يعش أكثر من سبعة وخمسين سنة وهو عمر يكشف عن سير صحّة أهم من ألّف في عالم الطب.
طبعا، اليمنيوّن بعد ما يقرب من تسع سنوات حرب وأزمات، لم يعودوا يعبأون بصحتّهم، وبالتالي لا مجال هنا للنصائح، أو التحذير. وإذا كان البعض قد حلم أن ينجز في عمر قصير نصف أو ربع ما أنجزه ابن سينا، فإنه الآن أصبح لا يحلم بأي شيء سوى الموت بهدوء ومن دون أمراض أو ألم.