القاهرة: لم يمرّ الفيلم السوري "نزوح" مرور الكرام، في عرضه الأربعاء، ضمن فعاليات الدورة السادسة من أيام القاهرة السينمائية، الفعالية السنوية التي تخصص للأفلام العربية، وتعبر عن هموم صناع السينما العرب.
يشي عنوان الفيلم بما تنتوي الكاتبة والمُخرجة سؤددكعدان، أن تتحدث عنه في هذا الروائي الطويل الذي حصد جائزة الجهور بمهرجان فينيسيا السينمائي عام 2022، وهو أول فيلم عربي يحصد هذه الجائزة. ومع ذلك، فإن "نزوح" لا يتكلم على لحظة النزوح نفسها، ولا على أسئلتها الصعبة والجارحة، من قبيل: إلى أين يمكن للمرء أن يتجه؟ وهل يستطيع حقا أن يبدأ حياة جديدة في بلد جديد، أو أي بقعة أخرى من هذه الأرض؟ بل يُركز أكثر على حالة ما قبل هذا النزوح، ويحاول أن يفحص، بطريقة تُثير الشجن والضحك في آن واحد، ذلك الخيار الذي يبدو للوهلة الأولى خيار نجاة، لكنه لا يُمسي كذلك من غير أن تسبقه على أية حال، كما يُبين لنا الفيلم نفسه، مواجهات عديدة مع الموت.
في حين تستقبل القاهرة أعدادا متزايدة من النازحين السودانيين، على خلفية الاقتتال الجاري في الخرطوم، كان جمهور سينما "زاوية" يُتابع بشغف، حكاية هالة ومعتز وابنتهما زينة، يلعب أدوارهم بالترتيب كندة علوش وسامر المصري وهالة زين. يبدأ الفيلم بلحظة يعمّ فيها الظلام بيت الأسرة، وهو ظلام يسعى الأب معتز، عبر انضباطه ومحاولات سيطرته على أفكار زوجته وابنته، لتحويله إلى أي شيء آخر، غير أن يكون ظلام الحرب. لعله مثلا صلاة، أو محاولة لتوفير الطاقة. يطلب منهم أن يوقفوا المروحة، بينما يغرقون في العرق، كأنهم لا يعيشون لحظة استثنائية متطرفة خارجة عن أي توقع. كان يُمكن لهذا الموقف الإنكاري من طرف الزوج والأب، أن يتحوّل إلى إدانة قوية وعنيفة للشخصية الذكورية المتسلطة. لكن كاتبة الفيلم ومخرجته اختارت أن تحفظ لمُعتز إنسانيته وهشاشته. وحين ستُعاند الحياة فوق عناده، وتُسقِط فوق رأسه تلك القذائف التي تخرب بيته، وتشرد أسرته، ستجعلنا على الرغم من كل شيء، نضحك بحرارة، وهو ضحك قد يُشعرنا أولا بالذنب على حدّ وصف أحد مُشاهدي الفيلم في السينما، حين يُصمم معتز على الصعود إلى البيت وفحص الجدران، بل ويعود بخلاصة صادمة ومُغرقة في الإنكار: "حبيبتي الجدران بس منقورة (مخدوشة) شوي"، قبل أن يتعهد مخلصا، بإصلاحها.
إن مشكلة معتز بسيطة وهي أنه لا يريد أن يصير نازحا "بعد هالعُمر بدك يقولوا عنّا نازحين". ولسوف يخوض مُعتز كل أنواع الحروب الصغرى، ويُقدم كل التضحيات الكبرى في سبيل ألا يسقط في فخ هذه الصورة الذهنية. مَنْ هُم الذين سيقولون عنه؟ ولمَ يخشى مُعتز كلامهم إلى هذا الحد؟ إنها أيضا البقية الباقية من الصور الذهنية التي صنعها الإعلام عن المهاجرين، والتي لا تكف عن الرواج مع كل حرب جديدة. صورة تنتقص من رجولة عصام، أو بالأحرى من ذكورته، كما يعتقد. يُردّد وهو يسحب هالة وزينة، متجولا بين أطلال بيتهم " لك البيت ما صار له شي" (لم يصب بأيّ ضرر)، ويُعبر الممثل سامر المصري بانسيابية عن هذه الحالة بين السذاجة والكبرياء، التي ستدفعنا مرة ثانية إلى الضحك.