بيروت: قد تكون شبكات تزوير الكتب وتسويقها صغيرة وهامشية، ومردود عملها محدود، مقارنة بأعمال شبكات تصنيع المخدرات (الكبتاغون نموذجا ومثالا) من حيث تهريبها وتوزيعها ومردودها ومضارها الكبيرة. فالشبكات الأخيرة هذه تقترن اقترانا حميما بشبكات تبييض الأموال وغسلها واستعمالها في إفساد المجتمعات وتدميرها. وهي تنشئ سوقا سرية سوداء ضخمة، وشبكاتها تجتاز حدود الدول الرخوة. وترقى أعمالها إلى الجريمة المنظمة المرتبطة ارتباطا وثيقا بمنظمات وأنظمة سياسية مافيوية حاكمة ومتسلطة في بعض بلدان المشرق العربي، خصوصا سوريا ولبنان.
وما يدعو إلى الربط بين هذه الشبكات الكبرى وتلك الصغيرة الخاصة بتزوير الكتب وتسويقها، هو حادثة كشفت أخيرا عن واحدة من شبكات تزوير الكتب، تعمل وتنشط في ضاحية بيروت الجنوبية، معقل حزب الله وقيادته الأمنية والسياسية وبيئته اللصيقة الحاضنة.
حدث ذلك في ظل المعلومات والأخبار الموثقة عن شبهات تطال الحزب عينه أو شبكات قريبة منه ومن بطانته، وتتعاون مع أجهزة النظام السوري، وتتورط في تصنيع الكبتاغون في مناطق حدودية لبنانية - سورية، وتهرّبه بكميات ضخمة إلى الأردن، ومن ثم إلى بلدان الخليج العربية، خصوصا السعودية. وقد أُدرِجت مسألة تهريب الكبتاغون في مباحثات وزراء خارجية عربا، صدرت عنها بيانات رسمية تتناول عمليات التهريب هذه.
سرعان ما تبين أن هذه الكتب الموسومة باسم "دار رياض الريس" وشارتها، كانت تصدرها قبل سنوات كثيرة "دار الهادي" التي كان يملكها قبل إفلاسها وإقفالها في ضاحية بيروت الجنوبية أيضا، المدعو صلاح عز الدين الذي كان مقربا من حزب الله
بين "الهادي" وأخواتها
حادثة تزوير الكتب في ضاحية بيروت الجنوبية كشفت عنها لـ "المجلة" إحدى دور النشر اللبنانية، وهي "دار رياض الريس" في بيروت. فمن طريق الصدفة علمت الدار المذكورة أن كتبا كثيرة وُسمت بعلامة صدورها عنها، من دون أن تكون أصدرتها في يوم من الأيام. وقد عُرضت الكتب المزوّرة أو المزيفة وبيعت في معارض كتب خليجية دولية.
لذا بادرت "دار رياض الريس" إلى استقصاء الأمر والتحرّي عنه. وبعد حصولها، بواسطة الشبكة الإلكترونية العنكبوتية ومحركات بحثها، على صور الكتب المزوّرة، أوكلت القضية إلى محامٍ تقدّم بشكوى إلى "مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية" التابع إلى جهاز قوى الأمن الداخلي في لبنان.
استطاع المكتب المذكور كشف هويّة شبكة التزوير. فإذا بها دار نشر مقرها ضاحية بيروت الجنوبية، حيث قامت بعمليات التزوير. ولما دهم عناصر من جهاز مكافحة جرائم المعلوماتية مكاتب هذه الدار ومطبعتها، صادروا أجهزة كمبيوتر وكميات من الكتب المزوّرة. وسرعان ما تبيّن أن هذه الكتب الموسومة باسم "دار رياض الريس" وشارتها، كانت تصدرها قبل سنوات كثيرة "دار الهادي" التي كان يملكها قبل إفلاسها وإقفالها في ضاحية بيروت الجنوبية أيضا، المدعو صلاح عز الدين الذي كان مقربا من حزب الله، بل من بطانته اللصيقة بقيادته حتى العام 2009.
أقدمت الدار المزوّرة على وضع أسماء مؤلفين وهميين على كتب كانت تصدرها "دار الهادي" المقفلة. ومن ثم وسمتها بعلامة صدورها عن "دار رياض الريس للنشر". لكنها لم تسوّق كتبها المزورة في السوق اللبنانية التي أصابها الكساد، وأفقر الانهيار المالي والاقتصادي الكبير اللبنانيين. لذا راحت تسوقها وتبيعها في معارض كتب في بلدان خليجية.
ما أشبه اليوم بالأمس
ما فعلته الدار المزورة هو تفصيل صغير من ما كان صاحب "دار الهادي" صلاح عز الدين قد أسس له وفعله من أعمال ترقى إلى أن تكون "بروفا" للإفلاس والانهيار اللذين يعيشهما لبنان منذ العام 2019.
وربما نسي معظم اللبنانيين اليوم تلك "البروفا" التي كان عز الدين نجمها. فهو من مواليد بلدة معروب الجنوبية سنة 1962. عمل في شبابه الأول ناظر مدرسة خاصة في ضاحية بيروت الجنوبية، وكان يساعد والده في محل لتنجيد المفروشات. انتسب إلى حزب الله. أدى مناسك الحج في مكة، وأخذ ينظم رحلات الحجاج باسم "حملة السلام".
في تسعينات القرن الماضي بدأ صيته يذيع كرجل أعمال كبير في البيئة الشيعية: إتجار بالنفط وصناعة الحديد والأحجار الكريمة والمناجم. وأطلق حملات في ضاحية بيروت الجنوبية وبلدات الجنوب اللبناني للراغبين في استثمار أموالهم في أعماله بفوائد عالية وصلت إلى 40 في المائة. انتشرت أصداء حملاته في سوريا وبلدان عربية. استثمر لديه مودعون كثيرون. غالبيتهم الساحقة من الطائفة الشيعية.
في العام 2009 أعلن صلاح عز الدين إفلاسه. وتتضارب أرقام المبالغ المودعة في أعماله ما بين 450 مليون دولار، ومليارين و200 ألف دولار. وشاعت أخبار تقول إنه "حافظة حزب الله المالية". اعتقلته السلطات اللبنانية وحققت معه ووجهت إليه تهمة "الاحتيال وإعلان الإفلاس". سُجن حتى العام 2014 وأخلي سبيله، من دون منعه من السفر. ومنذ ذلك الحين اختفى عز الدين وانطفأت أخباره، كأن شيئا لم يكن.
ألا تشبه فعلة صلاح عز الدين ومن يقف خلفه، ما فعله تحالف النخب المالية والسياسية والميليشيوية السلطوية الحاكمة، باللبنانيين مقيمين ومغتربين، منذ تسعينات القرن العشرين وحتى العام 2019؟ أغرت المصارف الناس بفوائد عالية لا مثيل لها في الأسواق المالية والمصرفية، لقاء إيداع أموالهم ومدّخراتهم لديها. بهذه الودائع والمدخرات وبواسطة المصرف المركزي الرسمي، راحت المصارف تموّل خزينة الدولة التي تناهبتها الطبقة السياسية الحاكمة في ما بينها وبذّرتها على فسادها ومواليها وأتباعها.
وها لبنان كله اليوم يعيش في هوة إفلاس مالي كبير وانهيار اقتصادي مديد، من دون أن يحاسب أحد أحدا عما جرى وحصل، كأن شيئا لم يحدث.
ليس ما فعلته الدار التي زورت الكتب في مطبعتها في ضاحية بيروت الجنوبية، سوى فعلة صغيرة عابرة في معايير ما حصل ويحصل في لبنان: أطلال مؤسسات حكم ودولة. أحزاب وزعامات طائفية صلبة وخاوية. مجتمع مفكك ومنحل
التحلل والنكاية
ليس ما فعلته الدار التي زورت الكتب في مطبعتها في ضاحية بيروت الجنوبية، سوى فعلة صغيرة عابرة في معايير ما حصل ويحصل في لبنان: أطلال مؤسسات حكم ودولة. أحزاب وزعامات طائفية صلبة وخاوية. مجتمع مفكك ومنحل إلى جماعات منهكة ومغلقة على عصبيات متخثرة. طبقة سياسية طفيلية منتهية الصلاحية تدير شؤون هذه الجماعات. دولة متهاوية، حدودها مشرعة، ومتروكة للتحلل في إدارة حزب حاكم في الظل والخفاء، ويقول إنه "يوحد الجبهات من غزة إلى صنعاء".
ومن آخر ابتكارات هذه الحال السائدة في ما يتعلق بالكتب ومعارضها في بيروت، أن رئيسة "اتحاد الناشرين اللبنانيين" (السيدة سميرة عاصي شقيقة زوجة رئيس مجلس النواب نبيه بري) تريد إقامة معرض للكتب في بيروت، نكاية بمعرض "الكتاب العربي الدولي" السنوي الذي يقيمه منذ عشرات السنين في بيروت "النادي الثقافي العربي" الذي يرعاه اليوم رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة.