في القمة
الفيلم الخارج من المسابقة الرسمية (وهي الأولى، بين أقسام المهرجان التي يتحلّق حولها الاهتمام الأكبر) ينهي سباقا ليجد نفسه متأهلا لسباق آخر بفضل قيمة السعفة الذهبية التي غالبا ما تتيح للفائز بها طريقا ناجحا صوب التوزيع والإقبال الجماهيري والفيلم المقبل... ثم- فوق ذلك كله- حظّا أفضل في الأوسكار الأميركي.
فيلم جوستين ترييه "تشريح سقوط" (Anatomy of a Fall) لن يكون استثناء عن هذا التقليد. دراما منقسمة إلى ثلاثة فصول غير مرقّمة، الأول هو تقديم تلك الأسرة التي تتألف من روائية (ساندرا هولر) وزوجها الذي يعمل محاضرا جامعيا (سامويل تييس) وابنهما الصغير شبه الأعمى (ميدو ماكادو غرانر). الثاني سبر غور حياة غير مريحة لكل هذه الشخصيات. الزوج يمنّي النفس بالتحوّل لمهنة زوجته وهو محبط بسبب إخفاقه حتى الآن. يتهم زوجته بالشروع بالخيانة مع فتاة تصغرها سنّا. الابن يفضل الخروج مع كلبه إلى الشوارع المحيطة هربا من الشجار. فجأة يسقط الزوج من نافذة الطابق الثالث. هل دفعته زوجته أم أن السقوط كان عارضا أو انتحارا. الفصل الثالث من الفيلم هو التشريح الذي في العنوان وتقع أحداثه في المحكمة حيث تقف الزوجة متهمة بجريمة قتل.
فيلم جوستين ترييه "تشريح سقوط"
بكلمات قليلة، "تشريح سقوط" ليس أفضل فيلم عرضته مسابقة مهرجان "كان" في دورتها السادسة والسبعين المنتهية قبل أيام قليلة (27 مايو/ أيار). يحتوي على النيّة الجادة وسوء التنفيذ في جوانب دون أخرى.
إلى ذلك، يفقد الفيلم وجهة نظر في القضية. الغالب هو أن المخرجة وشريكها في كتابة السيناريو هدفا إلى تعزيز الغموض داخل المحكمة ولو على حساب دعم بطلة الفيلم في موقفها ليتسنى للمشاهد تأييدها على الأقل.
بعد إعلان فوز ترييه ألقت المخرجة كلمة احتوت على الشكر ثم الهجوم على الحكومة الفرنسية لما اعتبرته تهديدا للمناخ الثقافي الذي اشتهرت به فرنسا لقرون، ذاكرة أن تغليب التجارة على الثقافة من قِبل حكومة ليبرالية جديدة يمثل تهديدا مباشرا للثقافة، وهاجمت الرئيس ماكرون منتقدة موقفه من رفع سن التقاعد.
وزيرة الثقافة، ريما عبدالملك، انبرت بالرد عليها قائلة إنه في مقابل إعجابها بالفيلم وتهنئة المخرجة على فوزها إلا أن هذا الفيلم لم يكن "سيرى النور لولا نظام التمويل المعمول به في فرنسا والمنفرد حول العالم"، كما كتبت على تويتر.
اختلافات جوهرية
الجائزة الثانية في الأهمية هي "الجائزة الكبرى" وهذه نالها فيلم "منطقة الاهتمام" (Zone of Interest) الذي يدور في رحى الهولوكوست من منظور عائلة ألمانية تعيش فوق فسحة جميلة من الأرض في منزل ليس بعيدا عن معتقل نازي لليهود. أصوات طلقات الرصاص أو صراخ الضحايا لا تترك تأثيرا على تلك العائلة. المخرج جوناثان غلايزر استوحى من رواية للكاتب البريطاني مارتن أميس (الذي فارقنا قبل أيام) الفكرة وبنى عليها أحداثه المنتقاة والمنفّذة بأسلوب جيد يليق بالجائزة رغم أنه ليس بالضرورة الأفضل بين أساليب فنية استخدمها مخرجون آخرون مثل الفنلندي آكي كاروسماكي في "أوراق ساقطة" (Fallen Leaves) أو الألماني ڤيم ڤندرز في "أيام مثالية" (Perfect Days). في الفيلمين قوّة رائعة في بساطة التأليف والعرض والبعد عن التكلّف. يتعرّض "أوراق ساقطة" لوضع اجتماعي- اقتصادي داكن يستطيع سلب الحب من القلوب. أما "أيام مُثالية" فهو عن رجل راض بحياته اليومية كمنظّف حمامات عامّة وسيبقى كذلك مهما قست ظروفه الخاصة عليه.
فاز "أوراق ساقطة" بجائزة "لجنة التحكيم" التي لا ترتفع لمستوى الجائزة الكبرى (الثانية في الأهمية وهي ما فاز بها فيلم "منطقة الاهتمام") في حين خرج الياباني كوجي ياكوشوا بجائزة أفضل ممثل عن فيلم "ڤندرز".
"كذب أبيض"
ما يفوت العديد من المعلّقين على النتائج عادة هو أن الجالسين على مقاعد لجان التحكيم قد يختلفون عن الرأي السائد لدى النقاد أو لدى الجمهور العريض. هم في الأساس مجموعة من الآراء والتجارب والخبرات ويمضون ساعات في النقاش قبل التوصل إلى اختيار الجوائز.
قاد لجنة التحكيم المخرج السويدي روبين أوستلند الذي كان نال سعفتين ذهبيّتين من هذا المهرجان الأولى سنة 2017 عن "الميدان" (The Square) والثانية في دورة العام الماضي عن "مثلث الحزن" (Triangle of Sadness). ووجه أوستلند، خلال المؤتمر الصحافي بعد إعلان الجوائز، بأسئلة متوقعة حول النتائج من بينها عما إذا كان فوز المخرجة جوستين ترييه له علاقة بالموجة الحالية التي تؤازر المخرجات في المهرجانات والمحافل المختلفة. نفى ذلك قائلا إن جنس المخرج لا علاقة له بالجائزة.
رغم ذلك، لا يسع المرء في مثل هذه الظروف المليئة بحركات التصحيح، نسائية أو سواها، إلا أن يضع في عين الاعتبار أن ستة أفلام من بين الأفلام المتسابقة في هذا القسم الرئيسي هي من إخراج نساء، وخمسة أفلام في مسابقة "نظرة ما" هي كذلك من إخراج نساء.
لا مانع هنا سوى أن المزيد من المهرجانات تشعر بالتقاعس والخوف من "الميديا" إذا وجدت نفسها خالية من نسبة كبيرة من أفلام النساء ما يؤثر على صيت المهرجان ويحرمه من ردّ مقنع. هذا يأتي على حساب النوعية تماما كما الحال عندما يستقبل فيلم متوسط القيمة من مخرج كبير لمجرد أنه اسم لامع ينتمي إلى الصف الأول.