تعيش بلدان المشرق العربي نتائج تغييب الحياة السياسية تغييبا مديدا، وقَصْرهما على غاية واحدة: استيلاء هذه الجماعة أو تلك على السلطة ومؤسسات الحكم في الدولة، وإخضاع الجماعات الأخرى المتنوعة بالقهر الأمني والحربي إلى سلطان الجماعة المستولية. وهذا ما انتهجه كل من نظام الأسد في سوريا، و"حزب الله" في لبنان، ونظام صدام حسين وبعده قوى "الحشد الشعبي" في العراق، وصولا إلى جماعة "أنصار الله" الحوثية في اليمن.
وتقوم "سياسة" هذه القوى على تعليق السياسة، وتفكيك الجماعات الأخرى التي لا تواليها ولا تخضع لها، ولا تذوب في مشروعها الفئوي الذي يجعل الدول ومجتمعاتها كيانات غير سياسية، متصلّبة وخاوية إلا من السلطان الأمني والعسكري العاري أو الخالص. ولتحقيق هذا السلطان لا بد من اقتلاع وتشتيت الجماعات التي لا تخضع له وتذوب فيه.
بقايا سريان سوريا
من الأمثلة على نتائج هذه "السياسات" الأمنية والحربية، مصير سريان سوريا الذي بيّنه في تحقيق كتبه في "المجلة" (24 مايو/أيار 2023) الزميل رستم محمود في عنوان "اختفاء شعب... سريان سوريا وهجراتهم"، حيث تحدث عن اقتلاعهم وتشتيتهم.
وبعدما كان السريان يشكلون في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين خُمس سكان منطقة الجزيرة السورية، ويمتد انتشارهم إلى قرى وبلدات الشريط الشمالي السوري المحاذي للحدود التركية، وكانوا "عضد" تقدّم الزراعة والصناعة والتعليم وتحديثها في تلك المنطقة، تلاشى حضورهم واضمحل على مراحل، بسبب المجازر ونزع الملكية وتشتتهم في المهاجر البعيدة.
ومن بقايا السريان في مدينة القامشلي السورية، وهي سريانية-كردية التأسيس في مطالع القرن العشرين، رجل صاحبُ "سناك" صغير في حي السريان شبه المهجور. والتقيناه في نهار من العام 2000، بعد جولة حزينة خاوية في المدينة وحديقتها العامة.
كانت كلمات الرجل تطلع من حسرات قديمة مكتومة، ورثها من أجيال سابقة. رجل في الأربعين، لكن العمر توقف به منذ زمن بعيد، فبدا كصبي هرم، يقيم وحيدا عازبا في كنف أمه الأرملة منذ طفولته. تخيّلناه يستيقظ باكرا، فيرتب السرير والأثاثات القديمة النظيفة، التي ظلت على حالها من قلة استعمالها، وغارقة في صمت مزمن حزين.
هو رجل تخلّف عن هجرات متلاحقة حصدت سريان القامشلي، فاستوطن مستوحشا في "سناك" صغير يبدو نظيفا كجزء من بيته في حي السريان المهجور الحزين، مثل نساء ترملن باكرا، ولا يُظهرن تعاستهن إلا للمرايا القديمة في بيوتهن القديمة.
بعدما كان السريان يشكلون في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين خُمس سكان منطقة الجزيرة السورية، ويمتد انتشارهم إلى قرى وبلدات الشريط الشمالي السوري المحاذي للحدود التركية، تلاشى حضورهم واضمحل على مراحل، بسبب المجازر ونزع الملكية وتشتتهم في المهاجر البعيدة
لا تختلف حال كلدان العراق عن سريان سوريا، إلا في أن أصواتا كلدانية مختنقة لا تزال تصدر عنهم، معلنة إصرار الناجين منهم من المجازر والاقتلاع على المكوث في ديارهم. لكن الباقين من كلدان العراق أبت قوى "الحشد الشعبي" الشيعية العراقية إلا أن تفكك لحمتهم الهشة الضعيفة. فاستغلت خوفهم وضعفهم لخنقهم وإذابتهم في مشروعها الفئوي التسلطي، حسب رواية مراسل "الشرق الأوسط" في بغداد فاضل النشمي في تقرير له عن كلدان العراق (16 مايو/أيار 2023).
بقايا كلدان العراق
روى النشمي أن رجلا يدعى ريان الكلداني أسس في العام 2018 جماعة كلدانية مسيحية كاثوليكية ميليشياوية سماها "كتائب بابل"، فتزعمها و"سيطر على الكوتا المسيحية (5 مقاعد) في البرلمان العراقي"، وسمى كتلة النواب هذه "بابليون". تمكن الكلداني من ذلك بعدما حظي "بدعم وإسناد" لكتائبه من "بعض الفصائل المسلحة المنضوية في الحشد الشعبي". وهو "يرتبط بعلاقات وثيقة بقوى الإطار التنسيقي الشيعية التي انضوت فيها كتلة نواب بابليون، وساهمت في تشكيل حكومة محمد شياع السوداني". فنالت نائبة من الكتلة، وهي إيفان فائق، وزارة الهجرة والمهجرين في حكومة السوداني.
حيال هذه الممارسات التي اتبعها الكلداني وكتائبه الميليشياوية وكتلة نوابه "بابليون"، رفع بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق والعالم لويس ساكو صوته معترضا، فجابهه ريان الكلداني وجماعته المستولية بقوة "الحشد الشعبي" وولائها له، بحملة "انتقادات"، و"تشويه" سمعته. وهذا لأنه (أي البطريرك ساكو) انتقد "انتقادات لاذعة (ممارسات) ريان الكلداني، واتهمه بـ"الاستحواذ على قدرات المكون المسيحي (في العراق) والاستيلاء على الكوتا المسيحية لأغراض سياسية" لا تمت بصلة إلى مصلحة الجماعة الكلدانية العامة. بل إن "ادعاءه وجماعته بالانتماء إلى الكنيسة الكلدانية، ليس حقيقيا". فلا هو ولا جماعته "يمثلان المسيحيين".
من يمثل ريان الكلداني، إذن؟
الأرجح أنه يمثل مع جماعته الخاصة أو رهطه من مكنهما من الاستيلاء القهري على تمثيل الكلدان الكاثوليك في منظومة السلطة العراقية. أي "الحشد الشعبي"، وليّه وولي نعمته. وهذا ما يوضحه بيان البطريرك لويس ساكو: "لقد استولى الكلداني وأشقاؤه على مقدرات مسيحية في سهل نينوى وتلكيف والقوش، وعلى منازل عوائل مسيحية في بغداد بمساعدة (من عينها) في منصب وزيرة" في الحكومة العراقية. إنها السيدة إيفان فائق وزيرة الهجرة والمهجرين.
ويشير بيان البطريرك الكلداني لويس ساكو في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 إلى أن "20 عائلة مسيحية تغادر العراق شهريا. وبعدما كان تعداد المسيحيين العراقيين 1.4 مليون نسمة سنة 1987، صار 141 ألف نسمة سنة 2021".
لا تختلف حال كلدان العراق عن سريان سوريا، إلا في أن أصواتا كلدانية مختنقة لا تزال تصدر عنهم، معلنة إصرار الناجين منهم من المجازر والاقتلاع على المكوث في ديارهم
تقلق أوضاع الكلدان في العراق الدول الأوروبية، فتنادت- حسب تقرير فاضل النشمي من بغداد- "11 دولة أوروبية، وأصدرت بيانا أعربت فيه عن دعمها بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق". ونشر البيان موقع حاضرة الفاتيكان الرسمي في روما، مشددا على "أهمية جهود البطريرك لحماية حقوق المسيحيين على الأرض التي سكنوها منذ ألفي عام".
السلاح زينة الرجال
ورغم أن هجرات الكلدان والسريان المسيحيين من العراق وسوريا ولبنان أيضاً، شبه صامتة وميسّرة، تظل أوضاعم في بلادهم تلقى اهتماما دوليا. ولم نسمع أو نشاهد أن مخيمات بؤس ومهانة أنشئت للاجئين سريانا وكلدانا ومسيحيين. ذلك أنهم مهاجرون وليسوا لاجئين، شأن الجماعات الأخرى المليونية المقتلعة من سوريا والعراق والمكدسة في عراء مخيمات اللجوء وبؤسها داخل هذين البلدين وعلى حدودهما، وصولاً إلى لبنان والأردن وتركيا.
وها هو السودان المنكوب بعد ليبيا، ينضم إلى لائحة مخيمات الشتات واللجوء المليونية الأشد بؤسا. هذا فيما جنرالان سودانيان يلوح كل منهما بعصا الماريشالية للانفراد بالسلطة على ركام البلاد والسودانيين وجماعاتهم التي بدأت تتشتت في بلدان الجوار. أما الجنرالان فلا تربطهما- على ما كتب الزميل حسام عيتاني في "المجلة"- سوى صرختهما: "السلاح في أيدينا زينة الرجال". وهذه الصرخة سبقهما إليها مرشد "حزب الله" في لبنان، ومرشد جماعة "أنصار الله" اليمنية.