أن نفكر، هو أن نتعلم كبح جماح الفكر

أن نفكر، هو أن نتعلم كبح جماح الفكر

لم ينفك الإنسان يفترض وجود قوى مضللة تحيد به عن طريق الخير والصواب. أطلقت الثقافات والديانات أسماء مختلفة على هذه القوى: من الشيطان بالمفهوم الديني إلى الهيبريس اليوناني، إلى شيطان المعرفة عند أبي الفلسفة الحديثة، إلى الضلال الأيديولوجي، إلى اللاوعي الفرويدي.. في مجال المعرفة، حُدّدت العقلانية دوما كمقاومة ضد قوى التضليل هذه التي ضمت تحت اسم "الخطأ". غير أن تحوّلا عميقا ستعرفه العقلانية تجلّى أساسا في موقفها من الخطأ، وتحديدها إياه. ولعل من أهمّ الاختلافات التي تميّز العقلانية المعاصرة عن العقلانية التقليدية، أن الأولى تعلي من شأن الخطأ، وتبوؤه مكانة أنثلوجية ووجودا فعليا.

لا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن الخطأ لم يكن له وجود في نظريات المعرفة التقليدية. معروف أن أبا الفلسفة الحديثة قد افترض شيطانا ماكرا يخدع العقل ويغشّه. بل إن ديكارت جعل في العقل نفسه فعاليات تعوقه عن المعرفة اليقينية مثل الذاكرة والخيال. وعلى الرغم من ذلك فإنّ العقلانية التقليدية لم تكن لتجعل الخطأ يتمتّع بقوّة تمكّنه من أن يصمد ويستمر في الوجود. فقد كانت هناك دوما لحظة يرتفع فيها الخطأ ويزول ليدع المكان للمعارف الصائبة اليقينية. وما "قواعد المنهج" عند صاحب "القواعد لتوجيه العقل" إلا أداة، للقضاء على الخطأ وبلوغ اليقين.

هذا الوجود "العرضي" للخطأ، هو ما سيقوم ضده الفكر الألماني ابتداء من كانط الذي سيجعل الأوهام من صميم العقل، إلى أن نصل إلى ماركس الذي سيجعل الأيديولوجية من صميم البنية الاجتماعية. هنا لن تعود الأوهام من قبيل الكائنات العرضية الزائلة التي قد يعفينا منها قليل من الحذر وحسن النية وعدم التعجّل والسبق إلى الحكم ومراعاة قواعد بعينها، وإنما ستغدو من مكوّنات الذّهن البشري بما هو كذلك، بل من دعائم البنية الاجتماعية ذاتها التي قد تكون في حاجة إلى أوهام. وقد سبق لماركس أن كتب: "إذا كنا نريد أن نتخلى عن الأوهام المتعلقة بوضعنا، فذلك يعني أن علينا أن نتخلى على وضع يكون في حاجة إلى أوهام".

كان من نتائج ذلك أن التطور الذي عرفته العقلانية أدّى إلى أن الخطأ لم يعد فيها من قبيل الكائن العرضي الزائل الذي قد يعفينا منه قليل من الحذر وحسن النية وعدم التعجل والسبق إلى الحكم. يعتقد ج. كانغليم أن الفضل كل الفضل يرجع إلى فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار في إعادة الاعتبار لمفهوم الخطأ. فهو الذي أوضح أن الفكر هو أولا وقبل كل شيء، قدرة على الغلط، وأن للخطأ دورا إيجابيا في نشأة المعرفة العلمية. فالحقيقة تستمد معناها عند باشلار، من حيث إنها تقويم لأخطاء. فكأن "وجودها" مدين للخطأ. بل إن "صورة الفكر العلمي ذاته ليست إلا حقيقة منسوجة على أرضية من الخطأ". فلا وجود لحقائق أولى ومعارف بدهية. إن الأخطاء هي الأولى. وفي البدء كان الخطأ. وكل حقيقة جديدة تولد بالرغم من البداهة و"كل تجربة موضوعية صحيحة يجب أن تحدِّد دوما كيفية تصحيح خطأ ذاتي". فالخطأ والجهل ليسا نقصا وعيبا ولا وجودا. ليس الجهل فراغا معرفيا. الجهل كثافة وامتلاء. والمعرفة "لا تصدر عن الجهالة مثلما ينبثق النور من الظلمة". الجهل بنية متماسكة: "إنه نسيج من الأخطاء الإيجابية الملحة والمتماسكة".

يرجع الفضل إلى فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار في إعادة الاعتبار لمفهوم الخطأ. فهو الذي أوضح أن الفكر هو أولا وقبل كل شيء، قدرة على الغلط، وأن للخطأ دورا إيجابيا في نشأة المعرفة العلمية  


لا يمثُل البحث العلمي عند الفيلسوف الفرنسي في تعميق ما نعرفه، وإنما في التخلّص مما نعرف، أو ما نعتقد أننا نعرفه. ما يعني أن العلم ينمو عن طريق الانفصالات والقطائع. فالفكر، أمام المعرفة العلمية، لا يكون قط حديث النشأة، بل يكون شيخا مثقلا بالسن لأنه يحمل من ورائه عمرا طويلا، هو بالضبط عمر أخطائه. على هذا النحو لا يكتفي الخطأ بأن يتقدّم الحقيقة في الزمان، بل إنه يتقدّمها شتى أنواع التقدّم: فهو الأساس الذي تقوم عليه، وهو علتها وسبب وجودها. وعندما "يبلغ" الفكر الحقيقة فليس ذلك تطلعا إلى أمام، بل مراجعة ورجوعا إلى خلف. لا عجب أن توحد العقلانية المعاصرة بين مفهومي الفكر والنقد. الفكر نقد وانتقاد، والنقد فكر، وهو كل الفكر. فكل حقيقة هي دوما ما كان يلزم أن نعتقده، وليس ما ينبغي علينا اعتقاده. كل بلوغ لحقيقة لا بد وأن يصاحبه نوع من "الندم الفكري".

لن تعود مسألة المعرفة، والحالة هذه مسألة نمو وبناء، وإنما ستغدو تراجعا و"ندما على ما فات" وما وقع الفكر ضحيّتَه. هذا الالتفات إلى ما فات، وهذا الرجوع قد يسمى جيينالوجيا الحقيقة، أو حفريات المعرفة أو التاريخ التكويني، إلا أنه يتبع الاستراتيجية ذاتها. لكن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أنّ هذه الاستراتيجية، بما هي استراتيجية مضادة، فإنّها لا يمكن أن تقوم في انعزال عن مقابلتها، إنها تقوم أساسا ضدها ولتقويضها والحفر في مسبقاتها. فلا بناء من غير تقويض، ولا حقيقة من دون أخطاء.

مقابل عقلانية ظافرة ما تنفك تحقّق انتصاراتها، تقوم اليوم عقلانية مجاهدة لا تنفك ترتد أعقابها وتصحّح أخطاءها، وتسترجع ما فاتها. إنها عقلانية لا يهمّها ما تحققه من انتصارات، وإنما ما تتفاداه من هزائم، وما تتخطاه من عقبات، وما تتجاوزه من أزمات. هي إذن عقلانية تتغذّى على فشلها، ولا تنفكّ تحسّ بأن الفشل يلاحقها. والمفارقة هنا هي أن هذا الإحساس وهذا التشرّب لـ "ثقافة الفشل"، هو الكفيل وحده بأن يجعلها تنتصر وتتقدّم وتنمو.

يغدو إعمال الفكر، والحالة هذه، حدّا من الاندفاع. إنه إيقاف و"فرملة" وكبح. وهو نوع من "بعث الفراغات" مقابل امتلاء يقينيات "الدوكسا". كتب موريس بلانشو: "في فقرنا الفكريّ يكمن غنى الفكر. فالفقر يجعلنا نحسّ  أنّ التفكير يعني دائما أن نتعلّم كيف نفكّر أقلّ ممّا نفكر، أن نفكّر في الغياب الذي هو الفكر، وأن نحافظ على ذلك الغياب عندما ننقله إلى الكلام". الفكر إذن غياب وتفكير في الغياب. فأن نفكّر هو أن نتعلم كبح جماح الفكر، أن نتعلم أن نفكر "أقل". هذا "الأقل"، هذا الخصاص والعوَز، هو خصاص نسبةً إلى اغتناء وهمي، نسبةً إلى وهْم اغتناء. لا غرابة، والحالة هذه، أن يقترن الفكر اليوم، ليس بالتراكم والبناء والتشييد، وإنما بالنقد والتراجع والحفر و"فكّ البناء".

font change