بيروت: في نعيه لقريبه الفنان اللبناني جمال تفاحة الذي عُرف باسم محمد جمال، نشر الممثل والإيمائي فايق حميص صورة لشيخ طاعن في السن وكتب مستعيدا تجربته: "شكل حالة موسيقية واسعة الأطراف من تلحين وغناء وديو مع طروب إلى الموشّحات وأغاني الشعراء الكلاسيكية إلى الأغاني المرتبطة بالموسيقى اليونانية بحسب هوية جدتنا، إلى النغم الذي عرف بالشبابي".
لا أحد يريد أن يصدق أن تلك الصورة تنتسب بأيّ شكل إلى الفنان الذي ما عرفناه إلا شابا يضج بالحيوية، ويطلق في سبعينات القرن المنصرم موجة الغناء الشبابي، فاتحا الباب أمام موجات لاحقة سلكت الدرب نفسه بأدوات مختلفة وبرؤية موسيقية وغنائية مغايرة، ولكنها استقت مناهجها ومصادرها من منطق كان المغني والملحن اللبناني المولود في طرابلس في العام 1934 من أوائل مؤسسيه.
نشأة فنية
نشأ محمد جمال في بيئة فنية، فكان والده يملك ويدير معملا لبيع الآلات الموسيقية وتصليحها في طرابلس، كما كان يعلم العزف عليها، وكان يحفظ دروس العزف على آلة العود التي يلقيها والده على تلاميذه، ويتدرّب عليها بمفرده حتى يتقنها.
آمن والده بموهبته وصوته فذهب به إلى الإذاعة حيث أدّى أغنية "سلوا قلبي" وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، لكنّ الأمر في البداية لم يخرج عن حدود الهواية والمزاج وبقي محصورا في إطار الحفلات المدرسية التي كان يطلب منه خلالها أن يؤدّي فيها الأغاني المشهورة في تلك الفترة إضافة إلى الأناشيد والتلاوة القرآنية.
حرص والده على الاستثمار فيه وفي شقيقته فاتن التي دخلت إلى عالم الفن لفترة وجيزة قبل أن تخرج منه وتنقطع أخبارها، وفي العام 1949 حمل الوالد طفليه وذهب بهما إلى العراق وبقيا هناك لمدة عامين تعرّفا خلالهما على أنواع مختلفة من الغناء.
وانسجاما مع السياقات الاجتماعية لتلك الفترة، والتي كانت تنسب إلى الوظيفة الرسمية قيمة عالية وتمنح صاحبها مكانة مرموقة، سعى جمال بعد نيله شهادة في الهندسة الكهربائية إلى الحصول على وظيفة رسمية في شركة الكهرباء، ولكنه لم يوفق وهنا كانت الانعطافة الكبرى في مسيرته.
توجّه الفتى بعد فشله في الالتحاق بالوظيفة الحكومية إلى الإذاعة حيث قُبل وكانت أولى أغنياته "قالولي أهل الهوى" و"أسمر يا شاغل قلبي". تعرّف في تلك الفترة على الملحن المرموق حليم الرومي الذي حاول دفعه إلى احتراف التلحين وترك الغناء.
ربما كان السبب حينها أن المغني الشاب لم يكن قد أجاد بعد أنماط الغناء الكلاسيكية التي كانت المقياس الشائع للحكم على القدرات الصوتية، وهنا لعبت شخصية الشاب الطموح الدور الأساسي في دفعه إلى الإصرار على سلوك درب الغناء، إضافة إلى التلحين والبحث عن هوية فنية جديدة وخاصة.
في البدايات قد يكون رأي فنان كبير يمتلك قدرا كبيرا من الوزن والمهابة مثل حليم الرومي قادرا على تحديد المسار الفني لمن يتلقاه، لكنّ الدافع الأكثر تأثيرا في نفس الفنان الشاب هو الرغبة في إثبات الذات كملحن ومطرب في آن واحد.