في نهاية ستينات القرن الماضي تسارعت وتيرة الحياة في إمارة دبي، وارتفعت مستويات العيش، ليخرج الناس المقتدرون من بيوتهم العريقة والقديمة في قلب دبي حيث المناطق الأولى من الفهيدي والشندغة، رويدا رويدا، ويذهبوا برخائهم إلى بيوت أحدث، وتفرغ البيوت الأولى، ليباع البعض ويهدم البعض الآخر، أو يأخذ طريقه نحو التأجير إلى الغرباء. شيئا فشيئا فرغت الأحياء الطينية من أصحابها، بمبانيها التقليدية وأبراجها التي لا تشبه سوى نفسها، فلم تكن البيوت الطينية كالبيوت العربية الأخرى، وخاصة بيوت ميسوري الحال، فأبراج الهواء البديعة في أعلاها من أهم تصاميمهم، وهي ذات فعالية كبيرة في تحويل الهواء من الجهات الأربع إلى غرف المنزل السفلية.
البراجيل هي مكيفات الهواء الأولى لأهل دبي، بُنيت في مطلع القرن العشرين، لتملأ أفق المدينة حتى منتصف القرن، وكانت تنتشر بهدف تحسين المناخ داخل البيوت، فلا يكابد أهلها حرّ الصيف الذي كان من أصعب ما يمر على أهل الخليج، ولم يكن يسهل تحمله، وكان الناس شديدي التأثر بتقلبات المناخ صيفا. أما البراجيل، وهي جمع بارجيل، أو كما ينطقها أهلها (باريل)، هو المبني الذي يعلو غرفة من الغرف، بهياكله الخشبية وعلى طول ارتفاعه مع الأعمدة الخشبية، بفتحاته الطولية الأربع بجوانبها، تلتقط الهواء في كل اتجاه من اتجاهات الرياح، وبكفاءة عالية، لتدخل تيارات الهواء إلى الغرفة حتى إفراغها في الداخل.
البراجيل هي مكيفات الهواء الأولى لأهل دبي، بُنيت في مطلع القرن العشرين، لتملأ أفق المدينة حتى منتصف القرن، وكانت تنتشر بهدف تحسين المناخ داخل البيوت، فلا يكابد أهلها حرّ الصيف
ومن كان يُصغي لموسم الأهوية في دبي، يستشعر الرياح الشرقية صباحا آتية من اتجاه الشمس، وعند الظهيرة تهب الرياح من الشمال، والعصر موعد الرياح الغربية من ناحية الغروب، إلى المساء لتأتي الرياح الجنوبية، وكل وقت من أوقات النهار في الصيف تدخل الرياح إلى البيت من خلال برج الهواء بفتحاته الأربع.
أثارت هذه الفتحات استغراب الأجانب والباحثين في علم العمارة وعلم الاجتماع، فأول وصولهم يتأملون البراجيل مشيا بين الأزقة، ثم يأخذون طريقهم إلى القنصلية البريطانية في دبي ليسألوا، أي بيت من الممكن أن يستأذنوا أهله ليدخلوا ويروا هذا البرج الهوائي من الداخل.
نجحت الشابة البريطانية الباحثة آن كولز عام 1969، باختراق البيوت قبل رحيل العائلات عنها، لتجلس هناك بين النساء متسائلة حول علاقاتهم الاجتماعية والأسرية والعملية، لتكتب الكثير وتدوّن قبل رحيلها إلى المملكة المتحدة عام 1971، حتى أتى المهندس بيتر جاكسون، وكان شابا قد تخرج من الجامعة متخصصا في العمارة، طُلب منه أن يذهب إلى دبي ويرسم برجا من أبراج الهواء للذاكرة والتاريخ والأرشفة، وكأنهم كانوا يعلمون أنها ستُزال مع هذا الرخاء الذي يمتد بالعائلات خروجا نحو أماكن أفسح.
أخذ بيتر جاكسون طريقه إلى بيت محمد شريف بوخش الذي بني عام 1925، وحيث دلوه عليه بوصفه الأجمل بين البيوت التي تحمل أبراج الهواء أعلى غرفها، فأخذ المهندس بيتر يمد شريط القياس السنتيمتري، ويساعده في مدها حفيد البيت الذي كان يبلغ من العمر 13 عاما، ويتحدث معه حول القياسات ومعاني الرسم التخطيطي، وشروحات المخطط، حتى انتهى من مهامه خلال أسابيع.
أثارت هذه الفتحات استغراب الباحثين في العمارة فأول وصولهم يتأملون البراجيل مشيا بين الأزقة، ثم يأخذون طريقهم إلى القنصلية البريطانية في دبي ليسألوا، أي بيت من الممكن أن يستأذنو أهله ليدخلوا ويروا هذا البرج الهوائي من الداخل
كبر الحفيد وعشق العمارة، ودرسها في جامعة سيراكيوز في نيويورك، وطوال تلك السنوات يبحث عن بيتر جاكسون الذي مسح بارجيل جده ورسمه، ولم يجده إلا بعد 28 عاما حيث كان زائرا في حفل تخريج بالجامعة الأميركية بالشارقة عام 2002، وقد أصبح بروفيسورا في العمارة، فقال له:
أنا الصبي الذي ساعدتك في بيت جدي على القياس والرسم، وتخصصت في العمارة أيضا، ولدي معلومات أكثر عن البارجيل إن شئت أمنحك إياها.
فعمل بيتر جاكسون مع آن كولز على كتاب مشترك بوصفهما كانا يعملان في ذات الفترة في دبي على العمارة وعلم الاجتماع، ليصدرا وباللغة الإنكليزية ومن دار نشر في لندن عام 2008، كتابا بعنوان "ويند تاور"، أي برج الهواء، متضمنا كل الصور النادرة التي التقطاها وشروحات علمية وبيانات وأرقاما عن براجيل دبي، وعن شكل المباني التقليدية.
واليوم دبي تعيش سياحتها العالمية التي تشكل هذه البيوت المرممة والرائعة في قلب دبي، جزءا منها، حيث الشندغة والفهيدي من المناطق القديمة العريقة عادت إلى الحياة، وبفضل هذا المهندس الذي كان صبيا صغيرا، رشاد بوخش، مُقنعا الحكومة بعدم التفريط بها، وهو اليوم رئيس مجلس إدارة جمعية التراث العمراني، والذي مضى على تأسيسها عشرون سنة، أنجز الكثير خلالها، وبشغف لا ينتهي، حتى أصبح مستشارا لأغلب المباني الأثرية التي يجري ترميمها في الإمارات.
غير أن المهتمين من المعماريين الغربيين لم يكتفوا، ورغبوا زيادة المعرفة حول هندسة البراجيل ونظامها التشغيلي، مثل الأسترالي المعماري د. إيان جونز، القادم من ملبورن، أراد دراسة اتجاهات الرياح وقياسها، فجلس خارج البارجيل وداخله يقيس الرياح والحرارة، مكتشفا أن الرياح في الخارج إن كانت 15 عقدة، تتحول إلى الدخل لتصبح 10 عقد، والحرارة في الخارج 40 درجة، تصبح بعد دخول البارجيل مباشرة إلى الغرفة 30 درجة، ليعرف مدى أهمية هذا التكييف الطبيعي والسريع والآمن، في زمن نعاني من الاحتباس الحراري وأزمة المناخ.