الحمراء ورأس بيروت
لا يتوقف الكلام اليوم في بيروت عن الحال المزرية التي انحدر إليها معلمان أساسيان في المدينة: منطقة رأس بيروت، وشارع الحمراء الذي يخترقها في وسطها من مصرف لبنان شرقا إلى منحدر الشارع المؤدي إلى المنارة على شاطئ البحر. أما الجامعة الأميركية فيأتي ذكرها في سياق إجماع على دورها التأسيسي في تكّون رأس بيروت منطقة خليط "كوزموبوليتي" مديني لبناني وعربي وأجنبي، منذ اختار المرسلون الإنجيليون الأميركيون تلك التلة البيروتية المشرفة على البحر لتشييد جامعتهم الشرق أوسطية عليها سنة 1866.
لكن الوجه "الكوزموبوليتي" الثقافي، الاستعراضي والإعلامي والدعائي، بلغ أوجه في رأس بيروت ستينات القرن العشرين والنصف الأول من سبعيناته، عندما صار شارع الحمراء في موطن الحداثة البيروتية الجديدة، عنوانها ومحجّتها اللبنانية والعربية والشرق أوسطية. ويعود ذلك أقله إلى أسباب ثلاثة متزامنة ومتداخلة:
- بعد مئة سنة على تأسيسها، بلغت الجامعة الأميركية أوج استقطابها أبناء نخب عربية من فلسطين وسوريا والعراق والأردن وبلدان الخليج العربية - بالتزامن مع الفورة النفطية - للتعلّم والإقامة في رأس بيروت. وهذا إلى جانب أبناء نخب لبنانية أنجلوفونية اللغة والثقافة، وسواهم من بلدان الشرق الأوسط والأجانب المنتمين إلى عشرات الجنسيات، وكان عددهم السنوي بالألوف.
- طفرة الحداثة الشبابية، وظهور الطلاب بقوة على مسارح الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، عالميا وعربيا، خصوصا في العاصمة اللبنانية بيروت.
- ضيق وسط بيروت المديني التقليدي القديم بمتطلبات ووظائف حداثة الستينات الشبابية التي انتقلت إلى شارع الحمراء في رأس بيروت، حيث أُنشئت مقاهي الرصيف ومطاعم الوجبات السريعة ودور السينما ومرابع الترفيه والحياة الليلية الشبابية المحدثة، إضافة إلى مقار الصحف وبعض المنتديات الثقافية والفنية.
هذا كله انتهى اليوم واختفى تماما، ولم يبق منه سوى الجامعة الأميركية التي يقتصر طلابها على اللبنانيين وحدهم تقريبا. ولكن كثرة منهم تتبرّم من أقساطها المرتفعة "المدولرة" على إيقاع جنون أسعار الدولار والانهيار المالي. أما معظم طلابها فعازمون على الهجرة فور إنهائهم دراستهم فيها. ولذا بدأت الجامعة الأميركية بتشييد فرع لها في قبرص.
بلغ تدهور أحوال رأس بيروت والحمراء الذروة في السنوات الثلاث الأخيرة. لكنهما منذ بداية الحروب الأهلية في لبنان شهدا محطات كثيرة من الصعود والهبوط. وكان الانحدار ما قبل الأخير في العام 2008، عندما سيطر حزب الله وما يسمى "الممانعة" بقوة السلاح على مدينة بيروت، وكانت رأس بيروت مسرحا أساسيا لتلك السيطرة. وبين سنوات 2011 و2015، شهد شارع الحمراء انبعاثه النسبي الأخير أثناء فرار أعداد كبيرة من الشبان/ات السوريين إلى بيروت في خضم الثورة السورية، واتخاذهم مقاهي الحمراء ومرابعه الليلية مكانا للقاءاتهم ونشاطاتهم في انتظار هجراتهم إلى أوروبا. وهذه الفئة السورية الشابة، المتعلمة والجامعية والمهنية المحدثة، اختفت اليوم إلا في ما ندر من بيروت ولبنان.
وقد تكون محيّرةً اليوم مقاربةُ الكلام اليومي الناعي، المتأسي والحزين، في رثائه رأس بيروت والحمراء وحدهما، جراء الحال المزرية التي يُجمع كثيرون على انحدارهما إليها أخيرا. وليس الباعث على الحيرة إنكار ما أصابهما من اهتراء وتحلل قد يتجاوزان ما أصاب سواهما من مناطق بيروت. بل مصدرها التشكك في الصورة الأيقونية الزاهية التي تعود إلى ما تسميه الأدبيات اللبنانية "الزمن الجميل" في نمط العيش والحياة الثقافية والفنية، عندما كانت الحمراء المسرح البيروتي الأشهر لذاك الزمن في الستينات. وهي الصورة التي تنطوي على حنين رومنطيقي، ومنها ينبعث الرثاء المحموم للحمراء ورأس بيروت اليوم، وتُضْفَى مأسوية مضاعفة على حاضرهما المأسوي.
وبعد سهرة في بار فندق كان يضج بالحياة في ماضي رأس بيروت الآفل - وخلا في تلك السهرة إلا من أصدقاء ثلاثة شاؤوا استئناف لقاءاتهم بعد انقطاع طويل يعود إلى بدايات تفشي وباء كورونا وعزلاته - وصف أحدهم السهرة بعد خروجهم من البار وسيرهم في الشوارع القريبة المعتمة الخاوية، فقال إنها "سهرة ألبانية". وهذا كناية عن أنها كسهرات مطاردين أو منبوذين في بلدان "الستار الحديدي" الشيوعية التي كانت الحياة فيها تعيسة وتشبه العيش في المعتقلات.
والحق أن في هذا التشبيه شيء من ما أصاب منطقة رأس بيروت، وخصوصا في حياتها الليلية: عتمة كأنما في بلدة نائية. مقاهٍ ومرابع ومتاجر مقفلة ما إن يحل المساء. المفتوحة منها شبه خالية. شبان عراقيون يتجوّلون سائحين في مجموعات على الأرصفة المعتمة والمقفرة. المقاهي التي لا تزال تفتح أبوابها تقدّم النراجيل. حتى ذاك الذي كان مقهى "الهورس شو" للنخبة الثقافية والفنية في الستينات والسبعينات، يخلو إلا من شاب عراقي وحيد يجلس على كنبة خلف زجاج المقهى مدخنا نرجيلة وينظر في الرصيف الخالي أمامه. وغالبا لا أثر لامرأة أو صبية في الليل على رصيف.
لكن المشهد النهاري في الحمراء ورأس بيروت مختلف عن المشهد الليلي "الألباني"، ربما على عكس ما غنت مرة نجوى كرم أن "الليل يستر العيوب". ففي بيروت اليوم ضوء النهار هو "ستّار عيوبها". فنهارات السعي المحموم - رغم أن الناس يتركون انطباعا بأنهم مخدّرون شاحبون متوترون ومبتئسون - لا تفصح عن تلك العزلات الثقيلة التي يعيشونها ليلاً في بيوتهم. ففي الليل تبدو المدينة في مشهدها الإجمالي شبحية، ليس في شوارعها سوى تلك الأضواء الكابية الشحيحة التي تخرج من خلف زجاج نوافذ البيوت في العمارات.
وتبدو رأس بيروت في نهارات الآحاد هادئة هدوءا أليفا. فالآحاد ليست للسعي المضطرب المتوتر، بل لنزهات بطيئة تذكّر بذاك التسكع القديم، رغم أنها نزهات على شيء من خمول لا يخلو من لذة فاترة. أما الأنشطة الثقافية والفنية والسينما والمسرح فصارت من الذكريات المنسية. ولا يخلو الأمر من عمل مسرحي ومعرض تشكيلي وأمسية ثقافية في أوقات متباعدة، لكنها في معظمها بلا أثر.
وتسمع البعض في بيروت اليوم يشبّهونها بالقاهرة. وهؤلاء يقصدون أن نمط العيش ومشاهده وحركة الحياة اليومية في شوارع بيروت، وخصوصا في شطرها الغربي، صارت تشبه تلك التي في القاهرة باختلالاتها وفوضاها وعتقها وألوانها الرمادية. لكن نزهة يوم أحد هادئ في رأس بيروت مرورا في شارع الحمراء، قد تذكرك بحي المهندسين أو الزمالك في القاهرة. وقد يكشف هذا عن أن تشبيه بيروت اليوم بالقاهرة يعني أن مشاهد الحياة اليومية في العاصمة اللبنانية صارت رمادية، وتنطوي على شيء من خشونة ذكورية، وفقدت تلك الأناقة التي كان يعبدها اللبنانيون وتتأهب اليوم للاختفاء، بعدما كانوا جعلوها من عوامل تشاوفهم باعتبارها من مصادر مصدر "التميز" اللبناني الذي حطمه ما أصاب بيروت ولبنان منذ 3 سنوات.
شوارع وأحياء للعزلة
وفي بيروت اليوم شوارع مهجورة إلا من الكآبة والذكريات المخزنة. وهناك مشاهد مؤلمة في شوارع أخرى. وللعنف الملجوم شوارعه أيضاً، فلا تخلو من عراك هنا وشجار هناك. وقد يتجدد بإطلاق النار ثأريا، فيتفرج عليه في الشارع سكانُ البنايات من خلف زجاج نوافذ بيوتهم، ويتراوون في السهرة وقائعه، مستمعين إلى نشرات أخبار تلفزيونية تذيع عليهم وقائع قاتمة. وقد نقرأ أحياناً أخبار انتحارات هنا وهناك. لكن الأسبوع الأول من مارس/ آذار الماضي سجل 4 انتحارات من بيئة طائفية واحدة (شيعية). وهم قرّروا المغادرة برصاصة في الرأس.
وللبؤس مشاهده الأليمة في كثرة من شوارع بيروت: على ناصية في كورنيش المزرعة تلمح امرأة أو صبية تلفّها ثياب سوداء، تحمل بيدها لافتة كرتونية مكتوب عليها "مكسورة على إيجار بيت. في سبيل الله. سبعمائة ألف" ليرة. على الكورنيش عينه لافتة خشبية معلقة على عمود إنارة. في أعلاها وفي أسفلها كُتبت عبارة "احذر الأمر خطير". وفي وسطها عبارة بارزة: "سبُّ الله دمار"، في إيحاء إلى أن هذا هو سبب الإفلاس المدمر. تتذكر أنك قبل أشهر رأيت غابة من اللافتات المماثلة في شوارع مدينة طرابلس. وتحت جسر محطة الكولا، غير بعيد من كورنيش المزرعة، تقف صبية حاملة لافتة كرتونية كُتبت عليها عبارة: "ماما مريضة سرطان. تحتاج إلى دواء باهض الثمن".
تقف الصبية وسط زحام سيارات خانق. ولفوضى الزحام شوارعها الكثيرة في بيروت: سيارات هادرة متحفزة للانقضاض على أي مساحة شاغرة في الشارع. أرتال من دراجات نارية تنبثق فجأة في أي مكان ضيق، طائرة مزمجرة بسائقيها بين سيارات ومشاة لا يبخلون بشتائمهم على سائقي الدراجات الذين يمدّ بعضهم ألسنتهم جوابا على الشاتمين المرتاعين من أن تصدمهم الدراجات النارية المسرعة طائرة في الاتجاهات كلها. وفي هذه الشوارع يتهيأ لك أن المشاة وركاب السيارات وممتطي الدراجات المزمجرة، هاربون من هول غامض إلى مجهول أشد غموضا. لكن الجميع يتنقلون بصبر جِمالٍ على العطش، كأنما تلك اللحظات هي الأخيرة قبل الجنون أو الخلاص من الجحيم.
وللهدوء الشاحب في بيروت شوارع تحاول مقاومة الشحوب. يقلّ فيها المشاة وعبور السيارات المصطفة بكثافة على جنباتها، وتلك الكثيرة المركونة تحت الأرض في مرائب البنايات الفخمة، بأعداد تفوق أعداد سكانها القليلين. وهؤلاء القلة محصنون في بيوتهم المريحة على قناعة راسخة مزمنة بأن الأماكن العامة في الخارج معادية لأسلوب حياتهم الهادئة المستكينة، رغم قلق بعضهم المكتوم والمقيم. ربما في انتظار الرحيل عن البلاد.
وفي مدينة الاختلالات والمهانات، الصبر والصمت المزمنين عليها، ينظّم هؤلاء حياتهم في كل بناية بوصفها كيانا سكنيا منعزلا ومستقلا. وغالباً ما تكون رسائل هواتفهم المحمولة أداة تنظيمهم الأساسية. وقد لا يلتقي سكان هذه البنايات، لا في مصاعدها ولا في مداخلها، إلا مصادفة ونادرا. وربما يتحاشون هذه اللقاءات، لا لشيء سوى انعدام حاجتهم إليها. ففي المدينة التي يقيمون فيها ويعملون، يتكبد تصريف شؤون حياتهم وخدماتهم وحاجاتهم اليومية جيش من العمال الصغار الوسطاء: من ناطور البناية، إلى عاملة التنظيفات المنزلية، إلى عمال الصيانة و"الدلفري" (التوصيل) من المطاعم والمخازن الكبرى ومحال الخضار، إلى مخلصي المعاملات في الإدارات الحكومية الفوضوية الخربة منذ دهر في لبنان كله.
والكآبة والشحوب المخيمان على شوارع وأحياء هذه الفئة من سكان البنايات الفخمة الحصينة، لا يحولان دون خروجهم من معازلهم وارتيادهم مطاعم باهظة الأسعار، وسهرهم فيها بانتظام تقريباً. فهم يتقاضون مرتباتهم ويحصلون مداخيلهم بالدولار الذي أضفنا إليه صفة "الطازج" في لبنان المفلس.
إلى عشاء في واحد من هذه المطاعم بمحلة مار مخايل للحياة الليلية، دعانا صديق كويتي لا ينقطع عن زيارة بيروت التي يغلبه حنينه إلى حياته طالبا في جامعتها الأميركية في بدايات حروب لبنان الأهلية. كان المطعم خاليا تقريبا في الثامنة مساء. وحدثنا الصديق عن الغموض الذي يكتنف فهمه طبيعة حياة اللبنانيين في زمن الإفلاس. وقد زاد فهمه وفهمنا غموضا في الساعة العاشرة، بعدما غصّ المطعم بالزبائن من الأعمار كافة. وفي أمسية أخرى، بعد جولة حزينة موحشة في عتمة رأس بيروت وشارع الحمراء، ذهلتُ لما أبصرت جمعا غفيرا على مدخل مطعم افتتح قبل شهور في محلة القنطاري قرب مبنى محطة تلفزيون "المستقبل" المقفل والمهجور منذ أكثر من 3 سنوات، بعدما ورثه سعد الحريري عن والده القتيل. ظننتُ أن الجمع يتهيأ لالتقاط صورة حفل زفاف. وتضاعف ذهولي لما دخلتُ المطعم الفسيح ورأيت حشود زبائنه الدائمين من عائلات بيروتية تقليدية محدثة، كأن بيروت هنا على حالها قبل الإفلاس والانهيار الاقتصادي.