في آخر ظهور له من أحد المشافي، كان عبدالكريم عبدالقادر "أبوخالد" يغلّف صوته ويضعه في حقيبة الوداع.
حقيبة الجلد والبخور والزعفران والجروح، كآخر وأعذب جراح الأغنية الخليجية.
في غابات "براو"، اعتاد رعاة رائحة الخشب جرح الأشجار وحقنها بالبكتيريا، وفي براو نفسها أسموا النتيجة التي يقضون في انتظارها عشرات الأعوام "دبل ملك"، وهو اسم لأفخر أنواع العود البخوريّ.
شجرة اللبان هي الأخرى Boswellia sacra Flueck تنتمي إلى فصيلة البخوريات. وتمتاز بقشرة تفرز سائلا راتنجيا لزجا أبيض اللون إذا جرحت، وهو أثمن لبان على وجه الأرض.
هذه الأشجار بجروحها انتمت إليها حنجرة عبدالكريم عبدالقادر.
قبل 40 عاما سألت رجلا يذهب إلى أماكن زراعته واستخراجه:
ـ لماذا كل هذا التعب؟
قال بلهجة الخبير وغير المتعلم وببساطة اللغة المحكية:
ـ تعبنا اللي ثمنه فيه.
ذهب البحارة، وذهب قاطعو الرمال، وذهب نحاتو الصخر بأقدامهم، ليحصلوا على "التعب الذي ثمنه فيه"، في حين أننا أدرنا أرواحنا وعواطفنا باتجاه صوت الخليج منذ 60 عاما وبعدها، لمن لم يعاصره في بداياته، لنذوق لبان الأغنيات وتطيّب أيامنا رائحة البخور فيها.
ربما لا أحد يتذكر تعب الطفولة الذي يروى عن عبدالكريم عبدالقادر.
في المدونات التي التقطتها العدسات والأقلام بعد رحيله، تحدثوا عن تعب الطفولة لطفل ولد في مدينة الزبير، لكنه تعب لم يشهده أحد ولم يذكره عبدالكريم لكريم خصاله.
يروى أنه عاش معاناة في طفولته، لكن كنه هذه المعاناة بلا تفاصيل، ولن يجرؤ أحد على السؤال عنه.
علّقنا عبدالكريم عبدالقادر بالأغنيات وأخذ طقس طفولته وأسرارها معه، وكأن أحداثها قد تدمي أرواحنا أكثر مما يحب، أو أقل مما نحب خارج الموسيقى والصوت المجروح بالأحزان، ومنه جاء لقب "الصوت الجريح" بعد أن أطلق الأغنية التي علقت في الدمع وفي سماء الخليج 1988.
يبدو أن شيئاً حدث في البدايات، البحث المتعب في الفن وخياراته.
حنجرة عبدالكريم حين اكتمل نضجها مبكرا أخذتها التواشيح الدينية، لسبب ما، ربما هو السر الذي لم يبُح به أحد.
لم يدم الأمر طويلا، لأن هناك من يعرف أن خامة تلمع نفسها بنفسها كما فعلت البكتيريا قبل ملايين الأعوام ستنجب حالة من الأغنيات لا مثيل لها.
شخصُ حزينُ لسبب ما، وحنجرة صقلت الأيام جلدها وأطرافها ولمعتها، وأجلستها أيامنا لتمسك بيدنا متى ما أحببنا أو افتقدنا أو ضربت قبضة الحزن لحظاتنا.
سنجد أغنية إن أحببنا، وأغنية إن أردنا الرقص، وأغنية إن ودعنا أحد وملأنا التعب والخذلان. سنجد تراث الخليج، واللؤلؤ، ودهن العود المقطّر والبخور
عبدالكريم كان المشفى الهائل للشعب الخليجي، الغرفة التي تأتي إليك بكامل حضورها وبياض إيقاعاتها، غرفة بديلة لأنابيب المغذيات وطواقم الأطباء والممرضين والحُقن المعدة بالمليمترات.
يقطر في شرايينك صوت قادمُ من طرف البحر، ويطلق في روحك النوارس والسفن والهواء النقيّ.
اليوتيوب وحده يوثّق معظم حوارات عبدالكريم، إذ لم يعد هناك ما نحتفظ به، بل هناك ما يحفظ لنا، في حواراته ستكتشف إنسانا رقيقا ونقيا مثل أغنياته، لا يمر ذكر أحد ممن جايلوه أو كانوا معه إلا وينسب لهم الفضل، لا يمكن أن تسمع منه كلمةً يسيء بها لأحد، حتى ممن فعلوا ذلك معه.
هذا هو أثر الفنّ .
الخليج كله مدين لصوته وأغنياته، هذا الراحل الباقي فينا إلى الأبد.
سنجد أغنية إن أحببنا، وأغنية أن أردنا الرقص، وأغنية إن ودعنا أحد وملأنا التعب والخذلان.
سنجد تراث الخليج، واللؤلؤ، ودهن العود المقطّر والبخور.