تسير طوال ساعات في شوارع مدينة القامشلي، أقصى شمال شرقي سوريا، تمر بحاراتها التقليدية (البشيرية، الأربوية، خانيكا، الآشورية)، تسأل عن جذور هذه الأسماء، فيُخبرك المُقيمون بأنها أسماء قرى سريانية قديمة محيطة بالمدينة، نزح أهلها في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم إلى هذه الأحياء، وسموا مناطق سكنهم بأسماء قراهم. وإذا سألت عنهم، أخبروك ببساطة: "لم يبقَ منهم أحد، هاجروا جميعاً".
مثل الحارات القديمة، فإن باقي تفاصيل مدينة القامشلي صورة من ذلك: مئات الورش في المنطقة الصناعية، المطاعم والمتنزهات الرئيسة وسط المدينة وعلى ضفتي نهر الجقجق الذي يقسم المدينة، المقاهي ودور السينما والمطاحن القديمة، ومثلها المكتبات والفنادق وما بقي من قصور لأبناء الطبقة البرجوازية والنوادي الثقافية وصالات الأفراح. كل ما هو رئيس ومركزي في المدينة له اسم ولافتة تعريفية سريانية، لكن مؤسسيها وأصحابها الأولين، السريان، لم يعودوا موجودين، لا فيها ولا في كامل المدينة.
القامشلي، المدينة الأكبر في شمال شرقي سوريا، كان السريان أول مؤسسيها في أواسط العشرينات من القرن المنصرم، وبقوا لعقود كثيرة عضد بنيانها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإداري. القامشلي كانت مثالاً لعدد كبير من المدن والبلدات في كامل منطقة شمال شرقي سوريا، مثل مدينة المالكية/ديريك بالقرب من المثلث الحدودي السوري التركي العراقي، مروراً بمدن ترباسبية/القحطانية والحسكة وعامودا والدرباسية ورأس العين وتل أبيض وكوباني/عين العرب، كان السريان الجماعة الأهلية التأسيسية والرائدة في كل واحدة منها، وفي كامل الأرياف والبلدات المحيطة بها، إلى أن تناقصت أعدادهم بالتقادم، اعتباراً من ثمانينات القرن المنصرم، ولأسباب مختلفة، حتى لم يبقَ منهم أحد تقريبا.
تشبه سيرة "الشعب السرياني" في سوريا مختلف أجزاء لوحة الجماعات المسيحية في منطقة الشرق الأوسط، من حيث الحضور الكثيف والحيوي في أواسط القرن المنصرم، مروراً بالتناقص وصولاً إلى حالة "التلاشي"، مع وجود "قيمة خاصة" للسريان في هذه المسيرة، باعتبارهم جماعة لم تعِ نفسها كأقلية قومية أو دينية في أي وقت، بل جماعة مندمجة في الفضاء الوطني على الدوام، سياسياً وثقافياً واقتصادياً، يعتريها شعور وجداني بأنهم "جذر سوريا"، حتى إن البلاد استمدت اسمها من اسمهم.