كأي دولة عظيمة تنتهج السعودية منذ تأسيس الملك عبد العزيز لها خط الواقعية السياسية، أي أنها تميل إلى ذلك الخط الذي يعتمد على الحقائق الملموسة في الحكم على الأشياء وتقديرها، ولا تلاحق الأحلام الصلبة التي يركض وراءها المؤدلجون البسطاء ممن لا يملّون من تكرار القول بأن أحلامهم الطوباوية ستتحقق يوما ما، دون وضع أي خطط زمنية أو برامج ثابتة. المملكة تنفر من الخط الخيالي هذا ومن وبائعي الأحلام.
واقعية المملكة السياسية تترجم نفسها بالحسابات الدقيقة للواقع، وتربط النتائج بالمقدمات، فتحسب سلفا نتائج أية خطوة وتقدر ما قد تؤول إليه، من دون انفعال عاطفي محب لأطراف أو كاره لآخرين. لا مكان تلج منه الأماني في هذه الطريقة من الحساب، هناك فقط الشيء المتاح. لكن هذا لا يعني أبدا انتفاء الأهداف أو المبادئ، فالسعودية لم تتخلّ عن مبادئها ولا أهدافها السامية قط، وواقعية المملكة ليست واقعية انهزامية راضخة للواقع وسائرة في مضماره، بل هي واقعية تحترم الواقع الموضوعي وتضعه في حسابها وفي الوقت نفسه تسعى إلى تغييره وتطويعه ليخدم أهدافها في المستقبل، وهذا من شأنه جعل أيّ متابع منصف يقرّ بأنها قد غيّرت الكثير خلال السنوات الخمس الأخيرة.
السعودية لم تتخلّ عن مبادئها ولا أهدافها السامية قط، وواقعية المملكة ليست انهزامية راضخة للواقع وسائرة في مضماره، بل هي واقعية تحترم الواقع الموضوعي وتضعه في حسابها وفي الوقت نفسه تسعى إلى تغييره وتطويعه ليخدم أهدافها في المستقبل
في قمة جدة تجلّت هذه الواقعية ولعبت السعودية دورها كقوة إقليمية أساسية مستقلة، فدعت الرئيس السوري بشار الأسد للقمة تمهيدا لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، لأن الحرب في سوريا قد استغرقت اثني عشر عاما دون أن يستطيع طرف أن ينتصر على الطرف الآخر، بعد قصة الخراب الذي طال جزءا ليس بالقليل من الأرض السورية وإزهاق الأنفس وتشرد الناس بالملايين. لا أحد سيستفيد من استمرار الحرب السورية سوى الجماعات الإرهابية المجنونة التي لا ترى بأسا في التضحيات الجسيمة بالأنفس ولو مات الناس بالملايين، بالإضافة إلى نجوم المعارضة السورية الذين يمارسون النشاط السياسي من لندن وباريس ويستمتعون بالدور البطولي الوهمي مدفوع الثمن، ولا يضيرهم أبدا إن بقيت هذه الحرب قائمة إلى الأبد. من هنا نشأت الضرورة إلى عودة الدولة السورية إلى الجامعة العربية تمهيدا لإنهاء حالة الاحتراب وتمهيدا للعودة إلى حالة النظام والسلم. ومن المنتظر أن يكون هناك عفو عام من قبل الحكومة السورية لكي يعود السوريون من الشتات إلى وطنهم وإغلاق هذا الملف، وإيقاف فاتورة الخسارة المفتوحة.
دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي إلى القمة العربية، إشارة واضحة إلى استقلال القرار السعودي عن الغرب وعن الشرق، وأنها لا تنحاز في الحرب الروسية/الأوكرانية إلى أحد بل فتحت المجال لزيلنسكي لكي يتحدث عن قضية بلاده في هذا المحفل الذي تابعه العالم بأكمله. ولا يفوتنا أن نقول إن استقلالية القرار السياسي السعودي هذه قد سبق وظهرت بجرعة أقوى وأوضح في الصلح التاريخي مع إيران، برعاية ضامنة صينية، رغم أن الإدارة الأمريكية الحالية غير راضية عن مثل هذا الصلح، وخصوصا أن ينطلق من هذه الرعاية الضامنة.
الحرب في اليمن تسير في طريقها إلى النهاية وإذا انتهت فعلا فلا شك أن في ذلك مؤشرا واضحا على أن إيران بدورها قد اختارت طريق الواقعية السياسية وأن الشرق الأوسط المأزوم لن يخدم مصالحها هي الأخرى، بل ينذر بنذر سوء قد تهدد نظامها السياسي القائم هي الأخرى.
لقد أخذت السعودية بزمام الأمور وقررت تصفير المشاكل في العالم العربي وفرض اسمها على أنها القوة السياسية الإقليمية المستقلة والرقم الصعب الذي يتعين على كل القوى العالمية أن تتعامل معه
الوضع في السودان لا يزال غير واضح المعالم، ولا يوجد من المؤشرات ما يبعث على التفاؤل، وقد تحدث محللون سياسيون عرب وغير عرب عن توقعاتهم لحرب طويلة. هل سيحتاج السودان إلى 12 سنة عجاف كالسنين التي مرت بسوريا لكي يدرك المتحاربون هناك أن لا أحد سينتصر في هذه الحرب، وأن الخاسر الأكبر هو الشعب السوداني الذي يعاني في هذه اللحظة من عدم توفر العلاج لصنوف متعددة من المرضى، مع أن الحرب ما زالت في بدايتها.
لقد أخذت السعودية بزمام الأمور وقررت تصفير المشاكل في العالم العربي وفرض اسمها على أنها القوة السياسية الإقليمية المستقلة والرقم الصعب الذي يتعين على كل القوى العالمية أن تتعامل معه. ولا شك أن موقفها سيكون أقوى وأشمل عندما يكون هناك حراك وعمل عربي مشترك يدعمان خطتها لإحلال السلام في المنطقة.