جحيم دانتي
بعد هذا التفسير المقتضب، يعقد روفيللي مقارنة لافتة بين نزول دانتي وفرجيل إلى الجحيم ورحلة أولئك الذين لديهم الفرصة لعبور أفق الحدث. وهذا ممكن بفضل معادلات أينشتاين، التي تقترح كيف يمكننا تخيّل الجزء الداخلي من الثقب الأسود، وهو شبيه "قُمع"، حفره النجم الميت، وكلما استطال وتقلّص أكثر، مرّ وقت أطول منذ ولادة الثقب الأسود. في الجزء السفلي من هذا القمع يوجد المتفرّدة، وبحكم تعريفها، فإن أبعادها تقارب الصفر، وبالتالي فهي أقل من "مقياس بلانك"، حتى يبدو عندها لا جدوى النسبية العامة وميكانيكا الكم التي تتعامل مع الجسيمات الأولية للمادة، وفي هذا المستوى لا يواجه المرء الأشياء، بل العلاقات فقط، إذ لا يوجد جسيم كائن بحدّ ذاته، على سبيل المثال الإلكترون، بل هناك سلسلة من العلاقات بين الإلكترون وكل ما يتفاعل معه.بعبارة أخرى، لا تصف نظرية الكمّ كيف "تكون" الأشياء، بل كيف "تحدث" الأشياء وكيف "تؤثر على بعضها البعض".
في مقابل المتفرّدة، حيث تؤدي الجاذبية إلى "توقّف الوقت"، تقترح نظرية روفيللي للجاذبية الكمّية الحلقية أن الانتقال الكمّي يحدث بوصفه بديلا من تكوين فضاء تلو الآخر. من حيث الجوهر، يقترح روفيللي أنه بمجرد دخول النجم إلى منطقة الكمّ، لا يستمر في السقوط، بل على العكس من ذلك "يرتدّ" إلى الوراء، ويوسّع القمع ويشكل "ثقبا أبيض"، أي ثقب أسود منتكس، يكون الوقت فيه معكوسا. وإذا كان بإمكان المرء فقط دخول هذا الأخير، فلا يمكنه الخروج سوى من الثقب الأبيض. ومع ذلك، لن يتغيّر أي شيء من الخارج، وبالتالي لا يمكن تمييز الثقوب السوداء عن البيضاء ظاهريا.
نجاح أدبي
يمثّل نجاح روفيللي إحدى الحالات القليلة التي تمكّن فيها عالم مشهور في حقله العلمي من تحقيق انتشار أدبي مواز يصل أيضا إلى عامة الناس. النجاح الذي يتجاوز الموضوعات التي يتناولها، يجد جذوره في جوانب مختلفة. أولا، أسلوبه الشفاف والواضح في الكتابة حيث يمكن استيعابه حتى من قبل أولئك الذين ليس لا يمتلكون أسسا معرفيا علميا متينا. وفي الواقع، لا يتضمن الكتاب صيغا طويلة أو براهين رياضية معقدة يمكن أن تجعل قراءته صعبة.
على العكس من ذلك، يُشرح كل مصطلح تقني بطريقة مبسّطة، إن لم يتجنبه المؤلف تماما لجعل النص أكثر سلاسة. ربما هذا لا يرضي نوعا معينا من القراء الواسعي الاطلاع، كما يعترف روفيللي نفسه، لكنه نص منفتح وقادر على التحدث إلى جمهور كبير. ومن الأمثلة على ذلك، الاقتباسات الأدبية العديدة، من دانتي إلى مونتالي، ومن لويس كارّول إلى تولكين، والتي تساعد على تعميق مفهوم العِلم وشموليته، حيث يبدو غالبا مكرّسا لنخبة متخصصة فحسب.
المؤلف نفسه، لا سيما في الجزء الأخير من الكتاب، هو الذي يدفع في هذا المسار، على سبيل المثال من خلال اقتراح رؤية للواقع يرتبط فيها كل شيء ارتباطا وثيقا. وفقا لروفيللي، نحن لا ندرس الكون في علاقة متوازنة بين الذات والشيء المنظور، ولكن بما أننا ننتمي إلى الكون نفسه، يجذبنا الانتماء المشترك إلى الواقع، لدرجة أنه يمكننا القول للعالَم، كما تفعل الحيوانات مع بعضها البعض في "كتاب الأدغال" لروديارد كيبلينغ، عندما يطلق القرد ماوكلي نداء الحدأة: "نحن من الدم نفسه، أنا وأنت".
ثانيا، تتميز كتابات روفيللي بدقّة ونقاء يولّدان في نفس القارئ ذلك الإحساس بالغموض والتساؤل والخوف الذي لا يمكن أن تُولّده سوى الأسئلة الوجودية الكبرى. إذا كانت الفلسفة، كما ادّعى الإغريق، وإرادة المعرفة بشكل عام، تنبعان من الشعور بالدهشة في مواجهة الظواهر المبهمة، والتي تخيف البشر وتسحرهم نوعا ما، عندها يمكننا أن نؤكد أن كتب روفيللي هي مضاعفات حقيقية للدهشة والغموض.
في لحظة تاريخية يسهل فيها الاستسلام للكسل الفكري ويبدو أن كل المعارف البشرية في متناول طلب سريع من تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل "تشات جي بي تي"، لا تبدو القدرة على تحفيز حب المعرفة رغبة في نيل المزيد من المعرفة من أجل أن يكون المرء "أفضل" من الآخرين، بل شكلا من الانجذاب إلى الغموض بوصفه شغفا دائما لسبر أغوار المجهول، فهو عمل حاسم يتجاوز المجال العلمي وله أيضا تداعيات مهمة على أسلوب حياتنا في المجتمع.
في الواقع، هذا يعني تثقيف الذات ودرء الحكم المسبق في مواجهة الإشكاليات، والاستماع إلى آراء الآخرين، وعدم اعتبار معرفة المرء مطلقة. بمعنى آخر، يعني القيام بتمرين ديمقراط مفيد، وهو التحاور مع الآخر.
ويرتبط هذا الأمر بجانب ثالث وأخير، ألا وهو أسلوب التعميم. فقد انتشر في السنوات الأخيرة نوع رديء من الإصدارات العلمية، يبدو أنه يركّز أحيانا على مهاجمة "الخصم" وتشويه سمعته أكثر من نشر المعرفة البحتة. بطبيعة الحال، تعتبر الفيزياء النظرية مجالا أقل حساسية من الناحية السياسية مقارنة بما حدث مع لقاحات فيروس كوفيد19 أو الجدال المستمر حول مصادر الطاقة المتجدّدة والموارد المستدامة، وبالتالي فإن خطر استقطاب النقاش أقل بكثير.