كلما ذُكرت اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية، تتصدّر اتفاقيتا كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس المصري أنور السادات عام 1978، وأوسلو التي أبرمها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 1993. بينما غالبا ما يسقط من هذه القائمة على وجه العموم اتفاق 17 مايو/أيار الذي وُقّع بين لبنان وإسرائيل، والذي لم يُنفذ أبدا على الرغم من موافقة البرلمان اللبناني عليه، ويصف المؤرخ الكندي نيل كابلان هذا الاتفاق في كتابه الذي صدر العام 1997 بعنوان "مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية بأنه "فشل ذريع". وقد كان كذلك بالفعل.
كان جيش الاحتلال الإسرائيلي اجتاح لبنان عام 1978 بهدف طرد مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية. وفي يونيو/حزيران 1982، حاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي بيروت واحتلها. وقد يَسَّر الزعيم الشاب بشير الجميّل الذي كان ينتمي لحزب الكتائب اللبنانية غزو الجيش الإسرائيلي للأراضي اللبنانية وشجّع عليه، وكان شديد الكراهية لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية. وفي واقع الأمر، كانت المواجهات التي دارت بينهما هي التي أثارت الصراع الذي دارت رحاه في لبنان بأسره في منتصف أبريل/نيسان من عام 1975. وقد انتُخب بشير الجميّل رئيسا للبنان في 23 أغسطس/آب ثمّ قُتل في 14 سبتمبر/أيلول من عام 1982.
مطالب شارون الأولية
سيحلّ أمين الجميل، أخو بشير، محله كرئيس للبنان في وقت لاحق من ذلك الشهر، ولكنه لم يأتِ في خطاب تنصيبه آنذاك على ذكر انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان. ويقول مقال نُشر في صحيفة "نيويورك تايمز" في 18 مايو/أيار 1983: "كان وزير الدفاع أرييل شارون، كبير مهندسي الحرب، قد أنجز الكثير من الأعمال الأساسية للاتفاقية في الخريف الماضي، والتقى سراً بأحد الثقاة المقربين من الرئيس اللبناني أمين الجميل، وصاغ وثيقة تحدد الاتفاق".
مثل بشير الجميل، كان شارون يشعر بالكراهية تجاه عرفات ويتوق لرؤيته ميِّتا. وكان يطالب، من بين أمور أخرى، بوضع حدٍّ لنشر الأسلحة في الجنوب، وبوجود عملاء استخبارات يحق لهم دخول منازل اللبنانيين واحتجاز المدنيين بحثا عن مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية. كما طالب بخمسة مواقع عسكرية في جنوب لبنان يتم إشغالها بـ 750 جنديا إسرائيليا.
المحادثات
بدأت المفاوضات الرسمية في فندق "ليبانون بيتش" في بلدة خلدة الساحلية جنوب بيروت، في 28 ديسمبر/كانون أول 1982. ومثّل إسرائيل في المحادثات ديفيد كيمحي، الشخصية الأسطورية في"الموساد"، ونائب رئيسه، والذي كان يشغل حينها منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية. ومثّل الجانب اللبناني أنطوان فتال، وهو دبلوماسي لبناني يتمتع بالخبرة ومن أصل سوري. وكان قد شغل منصب سفير لبنان السابق لدى الفاتيكان. ولعب وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز، دور الوسيط في المحادثات والذي كان يتولى إدارة المحادثات عن بعد، وكان مبعوثه المميز، موريس درابر، هو من يمثله على طاولة المفاوضات.
كان الرئيس الجميّل متابعاً لكل تفاصيل المحادثات عن كثب، في حين كان رئيس الوزراء شفيق الوزان يُظهر ترددا ويشعر بعدم الرغبة في الانخراط المفاوضات. قال الوزان قبيل وفاته في عام 1999، إنه بكى يوم توقيع اتفاقية 17 مايو/أيار.
الاتفاقية
نصت الاتفاقية على انسحابٍ إسرائيلي تدريجيٍ من لبنان خلال فترة زمنية تمتد من 8 إلى12 أسبوعا، بإشراف لجنة مشتركة من البلدين برئاسة الولايات المتحدة. وطالب الإسرائيليون مقابل الانسحاب الكامل بأن يُقيم الجيش اللبناني منطقة أمنية في جنوب لبنان، تبعد فيما بين 20 و37 ميلا عن شمال إسرائيل، لمنع المقاتلين الفلسطينيين من الاقتراب من المنطقة الحدودية.
وأوضح المفاوض الإسرائيلي ديفيد كيمحي لنظيره اللبناني أنطوان فتال أن انسحاب إسرائيل يجب ان يتزامن مع انسحاب كل من منظمة التحرير الفلسطينية والجيش السوري. وأومأ فتال برأسه تعبيرا عن الموافقة، دون أن يدري السبيل لتحقيق ذلك بالضبط.
أكدت الاتفاقية النهائية صراحة أن كلا من لبنان وإسرائيل "يعترفان بحقهما والتزامهما بالعيش في سلام مع بعضهما البعض"، الأمر الذي ينهي حالة الحرب التي استمرت بينهما منذ عام 1948. ولم تُؤسّس الاتفاقية لعلاقات دبلوماسية بين بيروت وتل أبيب، ولكنها أكدت بوضوح أن كل دولة يمكنها، إذا رغبت في ذلك، إنشاء مكتب اتصال في الدولة الأخرى. وأُوكلت مهمة التحدث مع لبنان مستقبلا إلى المسؤول الإسرائيلي البارز أوري لوبراني. وكان قريبا من الموساد وكان قد شغل منصب سفير في أوغندا وإثيوبيا ورئيس بعثة في إيران قبل ثورة الخميني عام 1979.
جرى حفلان لتوقيع اتفاقية 17 مايو/أيار. الأول في فندق "لبانون بيتش" في خلدة، وبعد ذلك نقلت مروحية جميع المندوبين إلى مدينة كريات شمونة الواقعة على الحدود الغربية لوادي الحولة، بالقرب من الحدود اللبنانية. وجرت حفلة توقيع ثانية هناك داخل إسرائيل.
ثم بدأت المشاكل الحقيقية: فكيف يمكن تحويل حبر الاتفاقية إلى واقع ملموس؟ كان لبنان منقسما انقساما حادا، وفيما كان أحد أطراف الوطن الواحد يدافع عن الاتفاقية، كان الطرف الآخر يتعهد بأن ذلك لن يمر أبدا. وشعر الكثيرون داخل العالم العربي بالغضب. وكان ذات الغضب الذي تولد عن اتفاقات السلام التي أبرمها الرئيس المصري أنور السادات في عام 1978 لا يزال ماثلا في أذهان الناس، وكذلك صور اغتياله بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ. وافترض إنجاح الاتفاقية الكثير من التعاون مع الرئيس السوري حافظ الأسد الذي كان الزعيم العربي الوحيد الذي يملك قوات على الأرض في لبنان. فسافر جورج شولتز جوا إلى دمشق في محاولة منه لإقناع الأسد بدعم الاتفاقية، ولكن الأسد رفض ووصف الوثيقة بأنها "اتفاقية إذعان".