قصصُ ولادة عناوين الكتب ليستْ متشابهة، وتختلفُ من تجربة كاتب إلى آخر، من تجربة كتاب إلى أُخرى، بالأحْرى.
ثمّة عناوين تسبقُ ولادة النصّ، عنّتْ في بال مُؤَلفيها منذ البدء، قبل أن يُخلق متن الكتاب، رواية كان أو مجموعة قصصيّة أو شعرا أو فكرا أو غير ذلك... هذه العناوين المُسبقة، وهي نادرة في أن تكون موفّقة دائما، تشبه شرارةَ تحريضٍ على إنجاز اللّاحق من مسودّة الكتاب التي تنْعَلنُ في مرحلة العنوان كمشروع. يصيرُ المتنُ السّرديُّ الذي لم يُكتبْ بعدُ احتماليّا، قَيْدَ النّوايا المُغْمَز إليها بعيْن العنوان. يغدو هذا الأخير في هذه الحالة المتوثّبة كسلوقيٍّ راكضٍ نحو طريدة افتراضية، لا مرئيّة، لم تصبْها رصاصة القنّاص بعد.
ومع ذلك، فبعض هذه العناوين المسبقة إنما يسكن النصُ في عتبتها، تَحْبَل به كأنثى قبل أن ينزلقَ إلى الوجود، وهنا يكونُ العنوان رَحما، وعلى النّقيض وهذه هي المفارقة، قد يكون شاهدةَ قبْر لكثير من النصوص التي لم يُقدّر لها أن توجد، وظلت أسيرة نوايا العنوان، إذ لم تتخطّه إلى الكينونة الفعلية.
في الأوّل والأخير تلعبُ هذه العناوين المسبقة دور الثقب الأسود الذي يظل يتحرّك في فلك الكاتب حتى يبتلعه في اللحظة الموقوتة، حالما يتحقق ابتكار وتأليف النص.
من ناحية أخرى، هذه العناوين المسبقة التي ولدتْ قبل ولادة النصوص، قد تنزاح عن عرش الغواية وتتغيّر ما أن يستوفي الكتابُ شروطَ الاكتمال، إذ تفقد مركزيّةَ إقناعها أمامَ تفتُّق عناوين طارئة، هامشيّة ومستفزّة، تكون لها حظوةُ الظَّفر بتصدُّر المُؤَلَّف، فتستحوذ على ختم المُنْجز ببصمتها الدامغة. كم يُشبه سباق ماراثون العناوين هذا ماراثونَ سباق الحيوانات المنويّة في طريقها الزّاخم إلى ولوج البويضة في عالم النّسْل العجيب.
عندما يتغيّرُ العنوان في اللحظة الأخيرة، الحاسمة، وهو ما لم يكن مُتوقّعا لدى الكاتب، فإنما الكتابُ نفسهُ من اختارَ عنوانه وليس صاحبهُ، كيف لا وقد غيّرتْ مصائرُ الكتابة خُططَ الكاتب المُسبقة وَأَلْغَتْها لصالح خطّتها –هي- البديلة.
ضمن منحى مغايرٍ، وهذا شائع أيضا وطبيعيّ، ثمّة كتب عنيدة، شقيّة، امتنعت منذ البدء عن الإفصاح بعناوينها المفترضة، وظلت مجهولة الاسم والهويّة لدى الكاتب على طول زمن الإنجاز، بينما رَاوَحَ هو المكان، سجينَ الحيرة في استنبات ما يلائمها، بل يكون تأليفُ الكتاب قد شارف مُنتهاه وبلغَ سدْرةَ أقاصيه، لكن بلا عنوانٍ، لذا يتركُه مؤلّفُهُ جانبا، مُرجّئا نشرهُ إلى حين العثور على المفقود من استكمال نقصانه وهو العنوانُ الذّهبيُّ المبحوثُ عنه بإلحاحٍ وشقاءٍ. أن يتركَ المؤلّفُ كتابه جانبا لا يعني أن ينساه، كما لا يعني إهماله أو الانصراف عنه إلى ما يليه، لأنّ كتابته لم تنته بعد، بل مستمرّة كمسودّة، تضاعفُ من قلقه وتلهبُ أرقهُ المستعرَ، ولا تهدأُ أو تطمئنُّ زوبعةُ أحواله المضْطربة، المشوّشة، حتّى يعْثر على البرْق الذهبيّ، برق العنوان اللّائق بعاصفة الكتاب.
هنا يكون شقاءُ البحث عن عنوانٍ للكتاب مُعادلا لشقاء كتَابته أو أكثر.
عندما يتغيّرُ العنوان في اللحظة الأخيرة، الحاسمة، وهو ما لم يكن مُتوقّعا لدى الكاتب، فإنما الكتابُ نفسهُ من اختارَ عنوانه وليس صاحبهُ، كيف لا وقد غيّرتْ مصائرُ الكتابة خُططَ الكاتب المُسبقة وَأَلْغَتْها لصالح خطّتها البديلة
ثمّة كُتَّاب حلموا بعناوين كتبهم، آمنوا بها وتشبّثوا بإغوائها دونما تبديل لها، فقلّدوها مفازةَ نصوصهم، وإن لمْ يحلموا بها فقد خاطرتهم في خدر هذيان، أو هاجَستْهُم في غيابة ثمل، مع أن معظم ما يبدو مُتألّقا في حُمّى المنامات يبطلُ سحرهُ مع الاستيقاظ من خدر الحالة نهارا، بما يعنيه القولُ المأثور (كلام الليل يمحوه النّهار)، وبذا يؤول إلى: (عنوانُ المنام يمحوه كتابُ اليقظة).
تخفُّفا من ثقل المشقّة، نزعَت طائفة من الكُتّاب بعدما يإسوا من العثور على المرغوب من العناوين الممتنعة إلى مَخْرج طوارئ، وفوّضوا أمر الاختيار للنّاشر أو المحرّر أو لأصدقائهم من المبدعين...
يأتيكَ العنوانُ أو تذهب إليه في معترك البحث الدّائم، إمّا في تجارب القراءة والحياة، في تجارب السّفر والمُثمر من العلاقة بالطّبيعة...إلخ
قد تصادفه أحيانا وأنت لم تحسب له حسابا، وقد يتخلّق وحده من تلقاء نفسه، داخل الكتاب ذاته، في منعطف من منعطفات الكتابة، وبذا يكون الكتابُ ما تفضّلَ بإفشاء سرّه لك حتى تُتَوجَهُ به.
كم من الكُتب الجيّدة خسرناها بفضل العناوين الرّكيكة، وكم من العناوين الجيّدة لكُتب ركيكة أيضا، خدعتنا وخذلتنا في آنٍ، غير أنّ فضيلةَ عناوين جيّدة لكُتب جيّدة هي بمثابة حظْوة نادرة للقارئ ما أن يظفرَ بها حتى تتحقّق له المتعةُ الخالصة مزدوجة، متعةُ أثر العنوان المقرونةُ بمتعة أثر الكتاب.
لا يوجد كتاب عربي طريف متخصّص في اقتراح العناوين المفتقدة، كتاب لا مألوف بمثابة دليل الكاتب إلى نماذج من العناوين الجاهزة، غير المستعملة، قد تلائم النصوص بحسب اختلافها نوعا وتخييلا وغرابة...إلخ
كما لا يوجد كتاب يتقصّى مسودّة العناوين التي لم يُقَدَّر لها أن تدمغ نواصيَ الكُتب بآخر لحظة، بما يعني كشف حساب الكُتّاب المتعلّق بالعناوين التي كانت وشيكة من أنْ تتقلّدَ أغلفةَ مؤلّفَاتهم، لولا أن تراجعت في سباق ماراثون الوصول إلى شرف ذلك المبتغى، فسبقتها عناوين طارئة، وأطاحت بها من قائمة الاختيار النهائي المحتوم.
ولأن العنوان الغريب المفقود شبيه بإبرة ضائعة في غابة من القش، أو يشبه كنز جزيرة مجهولة كالواق واق، فكم جدير به أن يُنصَفَ بأن تُخصّص لهُ جائزة مستقلّة على حدَة.