يعتبر العمل عبر الإنترنت أحد أهم الظواهر التي من المُمكن تتبع إنتاجاتها عالميا، الكثير من الفرص التي أتيحت للعمل وراء الشاشة ومن خلالها، الصورة المُعبرة بمليون معنى لم تعد كافية بوصفها تصويرا لسلعة أو لشيء مادي، بل برز على سطح العمل عبر الإنترنت جانب بشري تسويقي، دون أن يقوم المحتوى على المنتجات أو السياحة أو المعرفة أو الفن أو أي دلالة مادية أو معنوية أخرى، بل الإنسان ذاته هو المحتوى الذي من الممكن تسويقه والانجذاب إليه.
التسويق الذاتي
تبدو منصات مثل "تيك توك" و"بيغو" مجالا لصناعة المحتوى، وبالتالي لإنتاج الأعمال الاقتصادية من خلال النجاح في استخدامها: جانب مشهدي مُصور مع شروحات وإطلالة جيدة بكاميرا مقبولة قد تجعل أي شخص صانعا للمحتوى ومؤثر اجتماعيا. اندرجت أعمال كثيرة من هذا عبر الفضاء الرقمي، فبتّ تجد صُناع محتوى للطبخ والسياحة والصحة والرياضة، واستباحت استراتيجيات البث والعروض كل الآلية الإعلامية الكلاسيكية، وتحول كاتب النصوص (copywriter) في الشركات والعلامات التجارية إلى ما يُشبه التحفة الأثرية، في مقابل منصات وعروض مفتوحة يُجرب ويعرض فيها الصناع كل شيء عبر فيديو وصور وطريقة، أو (stylizd) -أسلبة /أسلوب -شخصي يبدو جذابا ومُنتجا؛ ما يؤدي إلى الانتشار رغم تفاوت الجهد بين الصُناع.
لقد تغير في العالم سحر الفنون، والإحساس الحميمي المُنتظر من فنان، أو ممثل، أو مسرحي، أو كاتب، أو حتى من نجم سياسي، فاجتاحت آلية التسويق الذاتي البشر العاديين دون أن يملكوا شيئا أو معنى يعملون على تسويقه، وتغير البُعد الروحي والمادي لدى متلقي الفنون التقليديين، من خلال مفهوم صناعة المحتوى والمؤثرين الاجتماعيين. حيث يقف الإنسان الحديث أمام مرحلة غير واضحة المعالم لتحديد مدى استخدامه لذاته وإدراكاته، أو قدراته على صناعة الأشياء، أو تقبلها والانجذاب إليها.
منذ نحو خمسة عشر عاما، أتاح الإنترنت سبلا للظهور والجذب الفردي دون أي معونة من التلفزيون، أو المجتمعات الإعلانية والاقتصادية الكُبرى. ولا يحتاج الإنسان بعد اليوم إلى أن يملك شيئا بين يديه ليظهره ويسوقه، ولا حتى لاكتشاف شيء جديد، أو أن يُصور تجربته في زيارة مكان ما؛ فهو قد يصيب النجاح بكل عفوية بعرض ذاته أمام الكاميرا وهو يفعل أي شيء. تنتشر في العالم صيغ للمتاجرة بالتواجد وراء الكاميرا فقط، دون أي استخدام لحالة ذهنية، أو تأمل، أو تحضير منطقي لعرض شيء ما. فإذا كان تاريخ البدء بالمتاجرة عبر الإنترنت بشكل شرعي بدأ عام 1979 -والتحقت بالإنتاج الإعلاني عبر الإنترنت كبار الشركات والوسطاء لنشر المنتجات والعروض السلعية- فإن البدء في تسويق الذات والكسب من خلالها، لم يبدأ إلا مع المنصات الحديثة التي تُكسب المال وفق العروض الشخصية عبر كاميرا وميكروفون. وهي عروض غير محددة، ولا تملك استراتيجية واضحة للنجاح بشكل أكيد، لكن لها سمات ثابتة يمكن تتبعها، أن تفتح الكاميرا وتبدأ رحلة البث، من الغناء إلى الرقص، ومن الحديث اليومي والعرض إلى الجنون أمام الكاميرا.