الأسد وزيلينسكي أمام القمة العربيةhttps://www.majalla.com/node/291786/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-%D9%88%D8%B2%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%86%D8%B3%D9%83%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9
بعد صدور البيان الختامي للقمّة العربية الـ32 في جدة الذي أعاد ترتيب الأولويات للقضايا الملحة في العالم العربي- بدءاً من القضية الفلسطينية والأزمة السورية والوضع اللبناني، مروراً بالملف الإيراني والوضع المتفجر في السودان، وصولاً إلى قضايا البيئة والأمن السيبراني، والملفات الاقتصادية والاجتماعية- يمكن القول إن ما قبل قمّة جدة ليس كما بعدها.
الفارق النوعي بين المرحلتين لا يقاس بالتغييرات المنشودة أو التداعيات التي لا زال من المبكر تلمّسها على صعيد الاستقرار الأمني والسياسي في أكثر من مكان، بل بالاختلاف المنهجي في المقاربات الجديدة للأزمات الراهنة والفهم العميق لميزان القوى الإقليمي وإدراك حقيقة ارتباطه بمراكز القوى الدولية والسعي لتفكيك رموزه، ورصد مؤشرات ظهور منظومة جديدة من العلاقات الدولية وربما نظام دولي جديد.
لقد انهالت الأحداث غير المسبوقة على المنطقة، بدءاً بتوقيع الاتفاق السعودي- الإيراني برعاية الصين في العاشر من مارس/آذار المنصرم، مروراً بحراك دبلوماسي تصدّرته المملكة العربية السعودية، وتنقل من تونس والجزائر إلى دمشق، مروراً بالرياض وعمان وبغداد والقاهرة وأبوظبي، وتوّج باتخاذ وزراء الخارجية العرب قراراً بعودة سوريا إلى الجامعة العربية وتشكيل لجنة متابعة لما سميّ سياسة "خطوة مقابل خطوة"، وتوجيه الدعوة للرئيس بشار الأسد بحضور قمتها الـ32.
ما قبل قمّة جدة ليس كما بعدها. الفارق النوعي بين المرحلتين لا يقاس بالتغييرات المنشودة بل بالاختلاف المنهجي في المقاربات الجديدة للأزمات الراهنة
لقد مضت الجامعة العربية في قرار عودة سوريا، رغم الانتقادات الحادة التي وجهتها الإدارة الأميركية لذلك، حيث اعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل، أن "سوريا لا تستحق إعادتها إلى جامعة الدول العربية"، كما أكد على هذا الموقف بيان لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي الذي رأى في إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية "خطأً استراتيجياً فادحاً سيشجع الأسد وروسيا وإيران على الاستمرار في ارتكاب المجازر بحق المدنيين وزعزعة استقرار الشرق الأوسط". وقد ذهبت بعض مراكز القرار الإقليمية والدولية في حينه إلى اعتبار ما جرى بمثابة خطوة واضحة في تخلي الدول العربية عن حلفائها الغربيين و"التوجه شرقاً" إلى جانب الصين وروسيا وإيران.
لم تقتصر اهتمامات الدبلوماسية العربية على التدخل في الأزمات الإقليمية، فقد كان للمملكة العربية السعودية دورها في الأزمة المستعرة في أوكرانيا، فإلى جانب النأي العربي عن الاصطفافات الدولية الحادّة التي شابت العلاقات الدولية بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والتزام التوازن في التعامل مع أزمة الطاقة العالمية، التقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يوم 27 فبراير/شباط المنصرم وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في كييف، في زيارة هي الأولى لمسؤول عربي بعد اندلاع الحرب. وقد تم خلال الزيارة التوقيع على اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الدولتين بقيمة 400 مليون دولار مخصصة للمساعدات الإنسانية وتمويل المشتقات النفطية. كذلك كان للمملكة دورها في تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، وقد حققت نجاحاً في تنفيذ هذه المهمة. وبعد زيارة كييف، التقى وزير الخارجية السعودي نظيره الروسي سيرغي لافروف في موسكو، لبحث الأزمة الأوكرانية، منوّهاً باستعداد بلاده للقيام بما يلزم لحل الصراع.
هذا التراكم الدبلوماسي حيال الأزمات الدولية والإقليمية والذي تقدّم على كل ما عهدناه في أزمات سابقة، يؤكد أن ما تصبو إليه النواة الصلبة من الدول العربية الوازنة ومعها الجامعة العربية، لا يقتصر على الاكتفاء بالتأقلم مع المنظومة الجديدة في العلاقات الدولية بل يتعدى ذلك الى المساهمة في صياغتها والتأسيس لوعي جديد يعيد ترتيب الأولويات العربية والإقليمية والدولية، ويعطي للجامعة العربية بعدها الدولي والريادي في ظل المسارات المعطلة والمتعثرة في أكثر من أزمة دولية وإقليمية.
الجدير ذكره أن الجامعة العربية التي سبق أن غابت عن الاضطلاع بدورها في الأزمات العربية، تعود اليوم لتؤكد على مسؤوليتها، ولكن على تموضعها في الوقت عينه، فوق الصراعات الدولية والإقليمية. وهي إذ تنأى بنفسها عن مقاربة أي صراع داخلي عربي وتسعى لإطلاق المسار السياسي بين الأطراف المتنازعة كسبيل وحيد لأي تسوية داخلية، بما يعني استحالة استدراجها الى أي اصطفاف داخلي، فإن مقاربتها للأزمات سواء في السودان أو سوريا أو لبنان، فلن تكون سوى في حدود الحفاظ على الأمن القومي العربي بأبعاده الأمنية والسياسية والاقتصادية وبما يحد من التدخلات الخارجية ويضعها في إطارها الصحيح.
ما تصبو إليه النواة الصلبة من الدول العربية الوازنة، ومعها الجامعة العربية، لا يقتصر على الاكتفاء بالتأقلم مع المنظومة الجديدة في العلاقات الدولية، بل يتعدى ذلك للمساهمة في صياغتها
إن نجاح الدبلوماسية العربية في تجنب الالتحاق بالصراعات التي استعرت خلال العام المنصرم والإسهام في تسوية النزاعات القائمة أو التخفيف من وقعها، وضع الإطار المنهجي للقمّة وأرسى ضوابطه الملزمة بما لم يسمح بأي استثمار استعراضي في جلساتها لأي من الأطراف المدعوة أو اعتبار السعي لعودة سوريا ومشاركتها بمثابة الاعتذار عن خطأ ارتُكب في سنوات سابقة.
هذا ما حاولت بعض الدول الإقليمية قراءته في الاتفاق الإيراني السعودي أو في المبادرة لعودة سوريا إلى الجامعة، وربما راهن البعض من جهة على تحويل الجامعة إلى منبر للمنازلات الخطابية وتجديد الإصطفافات في داخلها. وفي المقابل لم تكن دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لحضور القمة وإلقاء كلمة على منبرها، محاولة للدفاع عن الخيارات العربية أو لرد الاتهامات الأميركية للمملكة العربية السعودية والجامعة العربية "بالتوجه شرقاً".
وفي الخلاصة، اختصرت مشاركة الرئيس بشار الأسد في اجتماع جدة تأكيد الجامعة على استمرار الدولة الوطنية واستقرارها ووحدة أراضيها وسلامة مؤسساتها الوطنية، ووضع حد لكافة المظاهر المسلحة والعودة إلى المسارات السياسية، واختصرت مشاركة فولوديمير زيلينسكي الموقف المتوازن للجامعة حيال الأزمات الإقليمية والدولية وقدرتها على لعب دور الوسيط بين كييف وموسكو، والتأكيد على التوازن الدولي لحماية الاستقرار الذي ستعتمده الجامعة مستقبلاً حيال الصراعات الدولية.