السفر يشبه التحليق فكلاهما حركة في المكان والزمان، وكلاهما رحلة حافلة بالمحطات والانعطافات. ويحدث في ترحالنا وتنقلاتنا أن نصادف شخصا أو نقرأ كتابا يكون بمثابة بوصلة لطريق غامض ومجهول، كما يشكل محطة للوعي والنمو الشخصي والتقدم، خاصة في المواقف والخبرات الحياتية المتحولة والمتغيرة، وما من خبرة أعمق وأشد كثافة من خبرة السفر والانتقال الثقافي بكل ما فيهما من تجارب إنسانية، من لهفة الوصول إلى ألم الوداع، ومن مشاعر الغربة والحنين إلى الوطن إلى الشوق المتجدد للارتحال.
خلال الأشهر الأولى من ابتعاثي إلى كندا عام 2010 للدراسة العليا، صادف أن التقيت سيدة سبعينية، فتحادثنا، وكان ملؤها الفضول حول سبب انتقالي، أنا ابنة الصحراء، إلى كندا البعيدة الباردة، حسب تعبيرها. وانتهى بنا الحديث إلى أن أخذت عنواني البريدي لترسل لي كتابا أرادتني أن أطلع عليه. كنت حينها لا أعلم ما الكتاب وما سبب حرصها الذي احتضن غربتي لإهدائي كتابا، أدركت فيما بعد غايتها منه وكيف يمكن لكتاب كهذا أن يفجّر في داخلي تساؤلات كبرى عن الهوية والانتماء. وبالفعل وجدت بعد أيام قليلة في صندوق البريد المتدثر بالثلج الأبيض كتابا بعنوان “جوناثان لفينغستون طائر النورس" للكاتب الأميركي ريتشارد باخ، وقد وصدر عام 1970 وتحول إلى فيلم سينمائي للمخرج هال بارتليت في 1973، بعد تحقيقه مبيعات فاقت مليون نسخة.
كان غلاف الكتاب عبارة عن صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود لطائر نورس محلق باللون الأبيض والأسود التقطها راسل مونسون الذي زينت صوره فصول الكتاب الذي تصدّره الإهداء التالي: "إلى النورس الذي يعيش في أعماق كل منا".
تصور قصة هذا الطائر الرمزية البحث عن الحرية والنمو والرغبة في الانتماء وليس الانقياد. فنجده حائرا بين مطامحه، وبين الانتماء إلى سرب تحكمه العادات والتقاليد التي يحاول مرارا التمرد عليها، حتى يُستبعد ويُحرم من البقاء بين أسرته
طوال سنوات دراستي وتنقلاتي وتفاعلي مع نوارس مهاجرة أخرى من بيئات ثقافية ممتدة بدافع شخصي أو قسري كاللاجئين أو المهاجرين، تعمق بحثي في مواضيع الهوية الشخصية والاجتماعية وكيف تتشكل الهويات وتتقاطع. في أحد فصول الكتاب نجد مثل هذه المقاطع:
- لماذا أصعب ما فى الدنيا أن تقنع طائرا بأنه حُر؟
• أتقول إنني أستطيع الطيران؟
- بل أقول إنك حُر.
- بالنسبة إلى أغلب النوارس، ليس الطيران هو المهم، بل الأكل. لكن هذا النورس شيء آخر، فعنده لم يكن الأكل هو المهم، بل الطيران. كان النورس جوناثان ليفينغستون يحب أن يطير أكثر من أي شيء آخر.
- إنّنا نتخيّر عالمنا اللاحق عبر ما نتعلّمه في عالمنا هذا. من لا يتعلّم شيئا فسيكون عالمه اللاحق هو نفسه عالمه الحالي، بالحدود والقيود نفسها.. والأحمال الثّقيلة نفسها التي عليه أن يغالبها.
- حُكم العادة وسلطة الطقوس الفارغة ستفعل فعلها ببطء حتى تقتل حريتنا في أن نحيا الحياة التي نختارها.
- تنهد جوناثان وفكر في سرّه أن هذا ثمن إساءة الآخرين فهمك. يُسمونك شيطانا أو يُسمونك ملاكا.
ـ ما رأيك أنت يا فلتشر؟ هل نحن سابقون لزماننا؟
حلّ عليهما صمت طويل.
ـ في ظني، هذا النوع من الطيران موجود منذ القدم.
- لا علاقة للأمر بالزمان أصلا. لعلنا سابقون للأنماط السائدة، سابقون لطريقة الطيران التي يتبعها أغلب النوارس.
ففي حين كانت مئات طيور النورس تتنازع على بقايا الأسماك التي أفلتت من شباك الصيادين على بعد أمتار قليلة من الشاطئ، وحده كان جوناثان النورس لا يأبه بما يفعل رفاقه، مدربا نفسه على الطيران عاليا عن الأرض ثلاثين مترا ليغدو طائرا أفضل. كانت تمارينه تزعج أفراد القطيع وحتى أمه راحت تلومه على عدم تناوله الطعام قائلة له "لم يبق منك إلا الريش والعظم يا بني".
ونهره والده مرة بقسوة: "لقد أصبح الشتاء على الأبواب. والسفن لن تقوم بنشاطها المعتاد والأسماك ستبقى في الأعماق، تذكر أن سبب الطيران الوحيد هو الحصول على الطعام".
ونزولا عند رغبة والده، قام جوناثان بالبحث عن الطعام ومنازعة رفاقه على فتات الخبز. إلا أن نشاطه هذا لم يدم أكثر من بضعة أيام. إذ سرعان ما ترك الصيد وعاد إلى التحليق.
كان جوناثان مدفوعا باكتشافات تتجاوز الحدود الطبيعية لطاقاته خلافا لقوانين القطيع الذي يمارس حياته الاعتيادية بقدراته المحدودة، ففي حين كان ينظر إليهم بوصفهم تقليديين، كانوا يتهمونه بأنه عديم الإحساس بالمسؤولية وحكموا عليه بالإقصاء مهددين بهذا النبذ أهم احتياج إنساني وهو الشعور بالانتماء، فعاش لفترة منبوذا بعد أن أعيته السبل في إقناع قبيلته بأنّ تحليقه مسافة أعلى مما يفعل قومه، هو مجرد محاولة لإعطاء حياته معنى نبيلا وجديدا ولم يكن بدافع الخروج عنهم أو "عصيان قوانينهم". لم يتمكن من أن يحدثهم عن الحرية والاكتشاف، إذ منعوه من إبراز وجهة نظره، وأداروا ظهرهم وتركوه وحيدا منبوذا حزينا ومع هذا لم يعدل عن رغبته في تحقيق أحلامه وإيمانه بروعة التحليق، وذلك لفتح عيونهم على معنى الحرية والانطلاق.
ومع الوقت وجد من يؤمن به ويعلمه مهارات التحليق للأعلى والسعي نحو النمو الذاتي والكمال دون أن يتجاهل رغبته في الانتماء لقبيلته الأولى وموطنه الأصلي.
فكان كلما ازداد توغله في سماءات أعلى، ازداد تفكيره بالعالم الذي أتى منه وينتمي إليه. كان على يقين بأن على الشاطئ البعيد الذي تركه هناك طائر آخر صغير يريد أن يتعلم الطيران، ونبذته القبيلة لهذا السبب فكان مصمما على العودة. ليجد بالفعل طائرا صغيرا منبوذا أخذ بيده وطلب منه مسامحة أفراد قبيلته التي لا تسيء إلا إلى نفسها بتصرفها هذا. ومع الوقت، جمع حوله عددا من التلاميذ الراغبين في تعلم الطيران وبعد أن علمهم أصول الطيران طلب منهم العودة إلى القبيلة التي نبذتهم لإظهار الجانب الإيجابي من حقيقة تمردهم. قائلا: "عليكم رؤية النورس الحقيقي الكامن في أعماق أفراد قبيلتكم وأن تساعدوهم، وإياكم التخلي عن دوركم هذا، فأنتم لا تحبون الكراهية ولا السوء".
يبدو مفهوم الانتماء للوهلة الأولى بسيطا لكنه كلما عاودت النظر إليه وجدته معقدا. فالجماعات متنوعة منها أولية ومنها ثانوية، ومنها تلك التي ننضم إليها بصفة عفوية تلقائية ومنها تلك التي تتشكل بطريقة منظمة وواعية
تصور قصة هذا الطائر الرمزية البحث عن الحرية والنمو والرغبة في الانتماء وليس الانقياد. فنجده حائرا بين مطامحه، وبين الانتماء إلى سرب تحكمه العادات والتقاليد التي يحاول مرارا التمرد عليها، حتى يُستبعد ويُحرم من البقاء بين أسرته، نظرا إلى خروجه على هذه العادات، هذا الخروج، الذي تجسد في قدرته على الطيران متجاوزا السائد والمعروف بين قبيلته مع سعيه المستميت لنقل هذا الانجاز والمتعة لكل فرد من أفراد قبيلته من الطيور كي لا يحرموا من جمال التجربة.
هذه الرواية التي لا تتعدى 100 صفحة، من القطع المتوسط، هي حكاية الذين يتبعون قلوبهم، ويصنعون قوانينهم الخاصة، الذين يستمتعون بتجاربهم الفردية غير مطوقين بسلطة مجتمع أو جماعة وطقوس غالبا لا تتناغم مع بعضها البعض، لا لمن ضاق الطوق حول أعناقهم حتى اختفت حريتهم.
سيقول قائل: أليست الغاية هي العيش وسط عالم آمن؟ وهل نحن نمثل تلك النوارس التي تشهد نهاية الحرية إما بالنبذ أو بالانقياد المطلق للجماعة وإن كانت على خطأ؟
يبدو مفهوم الانتماء للوهلة الأولى بسيطا لكنه كلما عاودت النظر إليه وجدته معقدا. فالجماعات متنوعة منها أولية ومنها ثانوية، ومنها تلك التي ننضم إليها بصفة عفوية تلقائية ومنها تلك التي تتشكل بطريقة منظمة وواعية. وبصفة عامة، فإن الجنس البشري نفسه الذي ننتمي إليه ونعترف بوحدتنا البشرية تحت مظلته يعني أن الشعور بالانتماء أمر أساسي لوجودنا، فنسعى جاهدين للانتماء إلى شتى أنواع المجموعات. تلك القصة بما فيها من رمزية واستعارات لا تهدف إلى الانشقاق عن الجماعة، بقدر ما تتحدث عن خوض تجربة انتماء شخصية يناضل الفرد من أجلها كجماعة مرجعية، من أجل نموه الذاتي مضحيا براحته حين يقرر أن يحلق بدلا من مجرد البحث عن طعام "سهل" كما يفعل أخوته بافتراض أنه حين ينجز ويسعد بإنجازه فسيكون مقبولا وهذا غالبا لا يحدث للأسف.
اختيار إما أن تنتمي أو لا تنتمي ليس بهذه البساطة.
في بحث علمي نشر عام 2019 تناولت الباحثة الإستونية جيكاترينا ماكينن هذا الكتاب بالتحليل من منظور الكمال الذاتي وهدفت إلى الإجابة عن سؤال حول العوامل التي تحفز الناس لتحسين الذات، وكيف تتشابه تلك العوامل أو تختلف في ضوء تطور المجتمع في القرن العشرين، وهل الوصول إلى الكمال الذاتي يتطلب المغامرة بحاجتنا إلى الانتماء ووجود من يؤمن بنا وننتمي إليه؟
ترى الباحثة أن معظم النقاد رأوا بأنها قصة ملهمة، عن طائر النورس الذي لا يخشى أن يصبح فرديا، وكان تعلم فن الطيران بالنسبة إليه هو الحياة نفسها. إذ ظل يسعى ويحاول أن يصل للنمو الشخصي المتفرد وهذه الحاجة للتفرد والتميز هي ما تدعو إليه نظريات علم النفس الفردي في تساؤل الإنسان المستمر خلال رحلة بحثه عن ذاته، عن إجابة على سؤال "من أنا".
فالموضوع الرئيسي لـقصة طائر النورس هو التشجيع على متابعة أحلامنا والاستمتاع بالتحليق من أجل الحرية في أن تكون "ذاتك" بروح قتالية، حتى لو هدّد ذلك -ولو وقتيا، بالنفي من المجتمع. كما تناول التحليل قضية النفاق الاجتماعي. ففي البداية، تعامل القطيع مع جوناثان بإجحاف، عندما نبذوه وعاملوه معاملة جافة. ومع ذلك، في نهاية الرواية أصبح جوناثان النورس رمز المثالية وتلقى بعض التأييد الذي ساعده على المضي قدما.
لا ريب في أن المجتمعات الحديثة تقوم على القوة البشرية من خلال الاستفادة من الشباب وتفعيل طاقاتهم وتعزيز فكرة تطوير الذات والذي يتمثل في تحسين العالم الداخلي ليس بالتمحور حول الذات ومطامع الوصول المادي وشعر "الاستحقاق الفارغ" والانفلات المتعمد من المسؤولية المجتمعية والمشتركة والالتزام بالآخر وقيمة التماسك الاجتماعي، إنما المعنى هنا ينصب على فكرة خدمة الذات المؤدية لخدمة الآخر باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.
