أظن أن تاريخ الرواية العربية سيصبح، مع الدّارسين، مقسّما قسمين، ما قبل الجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة بـ "البوكر العربية" وما بعدها. فما تثيره هذه الجائزة من لغطٍ سنوي صار علامة على حيويّة المنجز الأدبي الذي يزداد عددا كل عام، بل إن هناك من تشجّع لإظهار موهبته المخبأة، بعد أن وجد الجوائز والقوائم والتصفيق!
في كلّ عام يترقّب الروائيون والنقّاد وعشّاق القراءة إعلان القائمة الطويلة وما أن تُنشر حتى يبدأ الصخب، هناك من يقول بدءا إنّها غير متوقّعة، وإنّ هناك روايات جديرة كان يفترض أن تضمّها القائمة، وكأنّه متأكّد أن هذه الروايات رُشّحت بالفعل من قبل الناشرين والكتّاب. وهناك من يقول العكس ويتحمّس لهذه القائمة، وهو كسابقه لم يقرأها بعد، أو يطلّع على معظم كتبها، باعترافه.
ثم يأتي الجدل حول الروايات التي تستحق أن تصعد إلى القائمة القصيرة، وحين يُعلن عن هذه الأخيرة ينزعج ويحتج كثيرون على عدم صعود روايات، أو رواية بعينها، من القائمة الطويلة، وربّما يذهبون بعيدا فيرون أن ذلك إقصاء من لجنة التحكيم وإدارة الجائزة لخوفهما من منافستها على الجائزة. وهي الجائزة التي يمنحها القرّاء لمن أرادوا مسبقا، وتصير أي نتيجة مرفوضة من قبلهم، حتى إن بعض دورات الجائزة صارت معروفة بالأسماء التي أثير حولها الجدل، فهناك دورة خالد خليفة ودورة علوية صبح ودورة إنعام كجه جي ودورة طارق إمام وهكذا.
والقارئ بالتأكيد له أهمّية كبيرة في القراءة بل والتقييم والحكم على مجريات الجائزة، ولهذا فهو الملاحُ، أو الرّيح، التي لا تستطيع أن تمشي سفينة الجائزة من دونه، أو يمضي الملاّحون بتجاهله.
بعض الكتّاب يريدون أن يبقوا خارج هذا اللغط، خاصّة وأن غصّة انتابتهم، بعد تجربتهم في ترشيحات سابقة، فما عادوا يقبلون ترشيح أعمالهم معتقدين أن هناك إشكاليات جوهرية تتعلّق باختيار لجان التحكيم وإدارة الجائزة
بعض الكتّاب يريدون أن يبقوا خارج هذا اللغط، خاصّة وأن غصّة انتابتهم، بعد تجربتهم في ترشيحات سابقة، فما عادوا يقبلون ترشيح أعمالهم معتقدين أن هناك إشكاليات جوهرية تتعلّق باختيار لجان التحكيم وإدارة الجائزة. أنا جرّبت هذه الغصّة، فعلى الرغم من أن روايتين من أعمالي صعدتا إلى القائمة الطويلة، في بداية تجربتي السردية، إلا أنني أصبت بما يشبه الخذلان من تقييم لجنة التحكيم، والجائزة عموما، حين رشّح الناشر روايتي "بخور عدني" إلى الجائزة ولم أجدها في القائمة الطويلة، في حين وجدت روايات لا ترتبط حتى بأولويات فن السرد، وبعضها فيها توليفات من رواية القرن الثامن عشر والحكايات العربية القديمة. وكنتُ أعرف أن هذا تقييمي الخاص لعملي وقد لا يشاركني فيه أحد، إلا أنني لا يمكن، في المقابل، مهما بلغ أوج التشكيك في قدرتي، أن أتجاهل قرابة أربعين سنة في قراءة فن السرد وتحولاته الجديدة، فقرّرت، لكي لا أصاب بغصّة جديدة، ألا أوافق على ترشيح رواية جديدة لي للجائزة، فاعتذرت من الناشر حين أراد أن يرشّح روايتي التالية، ولم أقل للقراء الذين تمنوا لي حينها حظا سعيدا في المرّات القادمة أن روايتي لم ترشح في الأساس!
ومع موقفي هذا، لم أقم بمهاجمة الجائزة، أو لجان التحكيم، فحسب ظني أنها تقوم بفعل هائل لصالح انتشار الرواية العربية وازدهارها، مهما كانت هناك من سلبيات أو ملاحظات قد تكون واضحة للقراء وللمتابعين، ولهذا لم أتردّد في الموافقة حين طلب مني مجلس أمناء الجائزة أن أكون عضوا في لجنة تحكيم الجائزة في إحدى دوراتها. كنتُ أريد أن أعرف بعض الخبايا من هذه التجربة، واكتشفت ألا خبايا هناك.
ما يمكن قوله إن ميزة أعمال لجان التحكيم في البوكر هي السماح للأعضاء بالنقاش حول الأعمال المرشحة، إلى درجة الحدّة، أحيانا، وهذا ما لا نجده في جوائز أخرى تعتمد إدارتها على جمع تقييمات الأعضاء، حسب الدرجات، ثم تقرّر هي لمن تمنح الجائزة. ناهيك عن أن البوكر العربية فيها هامش من الحرّية تتجاوز فيه بعض الخطوط الحمراء المكرّسة في الثقافة العربية، ولهذا هناك روايات صعدت إلى قوائمها، بل وفازت بالجائزة، وهي ممنوعة في بلدان كُتّابها.
تقوم البوكر بفعل هائل لصالح انتشار الرواية العربية وازدهارها، مهما كانت هناك من سلبيات أو ملاحظات قد تكون واضحة للقراء وللمتابعين
وإذا ما أتيحت لك الفرصة وجلست مع محكّمين سابقين في هذه الجائزة، فإنّك ستسمع أن الحدّة كادت أن تصل بينهم في بعض الجلسات إلى الصراع بالأيادي، وليس بالكلمات فقط، وأنه من غير الصحيح القول إن جميع الأعضاء يأتون للدفاع عن روائيي بلادهم، فهناك من يعمل كلّ جهده من أجل ألا يصعد أحد كتّاب بلاده لإحدى القوائم، لأسباب شخصية، وإن هناك من يقوم بمراسلة لجان التحكيم، بعد إعلان أسمائهم، من أجل أن يقصوا اسما ما لا يروق لهم!
ومع كل هذا الحال واللغط الدائم صار البعض يظن أن جائزة البوكر العربية حظّ ونصيب، بمثابة قضاء وقدر يمكن أن يحصل عليها أي كاتب مهما كان مستوى روايته.
ولا نعرف أين سيذهب الحظّ يوم الأحد القادم فيقول لإحدى الكاتبات أو الكتّاب: البوكر من نصيبك!