صنع طلال مدّاح بشخصيّته وكلمات أغانيه وطريقته الخاصة في الأداء وموسيقاه وألحانه، مشهدا بصريا وغنائيا يحيل بكل تجلياته على مجال سعودي خاص، ونجح في تحقيق الألفة العربيّة مع لهجة البلاد ومزاجها، كما يشهد له أنه استشرف لحظة التحديث التي تخوض السعوديّة مجالاتها في الميادين كافة، ومهّد لها.
ثورة "يا زارع الورد"
أغنية طلال مدّاح الأولى كانت "شفت القمر في المرايا" وهي من ألحانه وكلمات الشاعر عبد الرحمن بن سعود، لكنها لم تسجّل. أما الأغنية التي أطلقته في فضاء الغناء السعوديّ والعربيّ فهي "يا زارع الورد" من تلحينه وكلمات عبد الكريم خزام، وقد خرجت إلى النور عام 1959 وسُجّلت لصالح الإذاعة السعوديّة عام 1961.
تتجلّى استثنائيّة هذه الأغنية في أنها الأغنية العاطفيّة الأولى التي تسجّلها وتذيعها الإذاعة السعوديّة التي كانت لا تبث سوى الأناشيد الوطنيّة. من هنا نجحت في أن تكون حدثا، وخصوصا أن الجو آنذاك لم يكن يستسيغ هذا النوع من الغناء.
الرواج الكبير الذي لاقته هذه الأغنية سعوديّا وعربيّا شرّع أبواب التطوير من زاويتين، فنيّة واجتماعيّة.
ففي الزاوية الأولى، لم تخرج الأغنية في تركيبها الفني عن مألوف الأذن السعوديّة، لكنّها وسعته وطوّرته، عبر تعدّد البنى الموسيقيّة والإيقاعات التي دخلت في تركيبتها، فكانت أول أغنية "مكبلهة"، وهو مصطلح يصف الأغنية المتعددة اللحن والإيقاعات.
اجتماعيّا، إنّ تقبل الجمهور لهذا المزاج الجديد الكامن فيها ساهم في تغيير وجهات النظر حول الغناء التي انتقلت تدريجيّا من التحفظ إلى القبول فالترحيب وصولا إلى ما نشهده اليوم من احتفاء عريض بمسيرة مدّاح ليس بوصفه مطربا وموسيقيا عظيما وحسب، بل بوصفه أحد أركان الهويّة السعوديّة الفنية المعاصرة وأحد أبرز صنّاع خصوصيّتها.
مشاركته الوحيدة في فيلم "شارع الضباب" إلى جانب صباح ورشيد علامة، أعطت شارة انطلاق السينما السعوديّة.
لم يحظ الفيلم بنجاح جماهيري، لكنه فتح العين على علاقة مختلفة وجديدة مع السينما، يمكن معاينة ملامحها في مشهد السينما السعوديّة الجديدة التي قدّمت تجارب ذكيّة ومثقّفة بصريّا وجماليّا، وقادرة على طرح إشكاليّات معقّدة بسلاسة وبلغة سينمائيّة قادرة على إنتاج أدواتها الخاصة.